
انهيار النظام العربي أم إرهاصات لولادة نظام جديد
سعى النظام العربي الرسمي (منذ تأسيسه) إلى تحقيق هدفَين رئيسَين: الوحدة العربية والتصدّي للمخطّطات الصهيونية في المنطقة.
صحيحٌ أن الفِكَر الداعية إلى الوحدة العربية أسبق في نشأتها على تلك الداعية إلى مقاومة المخطّطات الصهيونية، غير أن عوامل عديدة أسهمت في الربط عضوياً بين الهدفَين، من أكثرها أهميةً فشل الثورة العربية الكبرى، التي سعت إلى توحيد دول المشرق العربي، وانكشاف التواطؤ البريطاني مع مطالب الحركة الصهيونية على حساب المطالب العربية، وسقوط الخلافة الإسلامية وتفكّك الإمبراطورية العثمانية،
لتقع معظم الأقطار العربية تحت سلطة الاحتلال الأوربي المباشر بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى،
كما اندلاع عديد من الثورات الفلسطينية المتعاقبة بين الحربَين، أسهمت في تعميق وعي النُّخب العربية بأنّ الأطماع الصهيونية لا تقتصر على فلسطين وحدها، إنما تستهدف الإبقاء على العالم العربي مقسّماً، والعمل على تفتيته أكثر كي تسهل السيطرة عليه.
وتفسّر هذه العوامل المتداخلة لماذا تزامنت ولادة النظام العربي الرسمي بتأسيس جامعة الدول العربية عام 1945، مع تصاعد حدّة الصراع الدائر في الساحة الفلسطينية،
وتعميق الشعور السائد لدى معظم النُّخب السياسية والفكرية في العالم العربي بأنّ القضية الفلسطينية ينبغي أن تكون "قضيةَ العرب الأولى"، وهو الشعار الذي ما زالت أصداؤه تتردّد في جميع مؤتمرات القمّم العربية، على الرغم من أنه أُفرِغ من مضمونه.
مرّ النظام الرسمي العربي بمراحل تطور متعدّدة، فرضتها ضرورات التأقلم مع الأوضاع العالمية والإقليمية المتغيّرة، حاول خلالها تحقيق الأهداف التي قام من أجلها، لكنّ منجزاته كانت ضحلةً إلى حدّ كبير، سواء على صعيد العمل الوحدوي، أو على صعيد مقاومة المخطّطات الصهيونية في المنطقة، لأنه لم يستخدم المنهج العلمي،
واتسمت مواقف النظام وتصرّفاته بالتخبّط والعشوائية وعدم وضوح الرؤية، والعجز عن اختيار الوسائل التي تتناسب مع الأهداف المنشودة. فعلى صعيد السياسات التي استهدفت تحقيق الوحدة بين أقطاره المختلفة،
خاضت الدول العربية تجاربَ وحدويةً عديدةً، صمد بعضها فترةً وجيزةً، ثمّ انتكس وانهار، مثل نموذج الوحدة الاندماجية بين مصر وسورية، وظلّ معظمها مجرّد حبر على ورق، لم يدخل حيّز التنفيذ، كمشروعات التكامل بين مصر وليبيا والسودان، ومشروعات الوحدة بين مصر وسورية والعراق وغيرها.
النموذج الوحيد الذي أفلت من الفشل هو النموذج الإمارتي، الذي نجح في تحقيق وحدة مستدامة بين "إمارات متصالحة"، لكنّه محدود التأثير، وغير قابل للمحاكاة والتعميم على مستوى النظام ككل.
والواقع أننا إذا ألقينا نظرةً فاحصةً على النظام العربي بوضعه الحالي، من منظور وحدوي، فسوف نجد أنه لم يفشل في تحقيق الوحدة بين الأقطار العربية فحسب، ولكنّه فشل أيضاً في المحافظة على وحدة واستقلال الدولة الوطنية، التي تفتّت عدد منها إلى دويلات أصغر، كالسودان والصومال وغيرهما، واشتعلت الحروب الأهلية في بعضها الآخر.
على صعيد السياسات التي استهدفت إدارة الصراع مع العدو الصهيوني، والتصدّي لمخطّطاته التوسّعية، كانت الحصيلة فشلاً أكبر، فقد خاضت الدول العربية حروباً نظاميةً عديدةً في مواجهة الكيان الصهيوني، لكنّها هُزمت في معظمها، ولم تنجح جزئياً إلا في حرب 1973.
وحين قرّرت مصر أن تكون تلك الحرب آخر الحروب، بدأت نهج التسوية السياسية، وسلكته منفردةً، ولم ينجح هذا النهج، لا في إيجاد تسوية للقضية الفلسطينية ولا في تحرير الأراضي العربية المحتلّة كلّها.
وأفضى ذلك إلى تعميق الخلافات العربية وانقسام النظام العربي بين معسكرَين، أحدهما يدفع في اتجاه التسوية السياسية، والآخر يدفع في اتجاه المقاومة المسلّحة، وكلاهما عاجز عن تحرير جميع الأراضي العربية المحتلّة وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلّة، وفق القواعد التي استندت إليها المبادرة التي طرحتها السعودية، وأقرّتها القمّة العربية عام 2002 في بيروت.
أفضى ذلك أيضاً إلى اختفاء ظاهرة الحروب النظامية، وانتقال إدارة الصراع المسلّح إلى أيدي فاعلين من غير الدول، وظهور "محور مقاومة"، تقوده إيران وتشارك فيه فصائل عربية مسلّحة، فلسطينية وغير فلسطينية.
كما مهّد الطريقَ أمام "طوفان الأقصى"، التي اتخذ منها الكيان الصهيوني ذريعةً للقيام بحرب إبادة جماعية تستهدف التهجير القسري للفلسطينيين إلى كلّ من سيناء والأردن، وما تزال مستمرّة منذ 8 أكتوبر/تشرين الأول 2023.
لا يتّسع المجال هنا لتحليل تفصيلي لمجمل الأسباب التي أدّت إلى إخفاق النظام العربي الرسمي في تحقيق أيّ من الأهداف الكُبرى، التي كانت (وما تزال) تبرّر وجوده.
غير أن في وسع الباحث المتتبع للمسار الذي سلكه هذا النظام أن يصل إلى نتيجة مفادها بأن قدرته على الإنجاز مرهونة بتوافر شرطَين متلازمَين: قيادة مؤهّلة وفاعلة، فرديةً كانت، كدور مصر الناصرية في بعض المراحل، أو جماعية، كأدوار مصر وسورية والسعودية في مراحل أخرى.
وتسلّح هذه القيادة، فرديةً أم جماعيةً، بإرادة مصمّمة على مواجهة التحدّيات كافّة، خصوصاً التي يفرضها تمدّد المشروع الصهيوني، بكل السبل المتاحة، بما فيها الوسائل العسكرية. ولأن أيّاً منهما ليس متاحاً في الوقت الراهن، بدليل ما جرى إبّان زيارة الرئيس الأميركي ترامب أخيراً السعودية وقطر والإمارات، والقمّة العربية التي تلتها في بغداد، يمكن القول إن النظام العربي الرسمي بات آيلاً للسقوط والانهيار التام.
ترامب هو الرئيس الأميركي الذي اعترف بالقدس الموحّدة عاصمةً أبدية لإسرائيل، ونقل إليها السفارة الأميركية، ولا يمانع في توسيع المستوطنات وضمها لإسرائيل،
ويشارك فعلياً في حرب إبادة جماعية تُشنّ على الشعب الفلسطيني منذ أكثر من عام ونصف العام، ويعبّر علناً عن رغبته في تهجيرهم قسراً من وطنهم.
وكان مشهد هذا الرئيس (ترامب) وهو يفاخر بحصوله من الدول الثلاث على استثمارات بنحو خمسة تريليونات دولار، مستفزّاً.
لو أن هذه الدول استطاعت أن تحصل من ترامب على التزام بوقف الحرب، أو على وعد بالامتناع عن استخدام حق النقض (فيتو) لحماية إسرائيل من العقاب، أو على اعتراف بحقّ الفلسطينين في إقامة دولة مستقلّة في حدود 1967، لهان الأمر.
ويثير الانتباه والاستغراب هنا أن هذه الدول تبدو غير قادرة حتى على التنسيق فيما بينها لتعزيز مواقفها التفاوضية تجاه الولايات المتحدة، لأن كلّ ما يعنيهم هو تلبية احتياجاتهم الثنائية، مع أن بمقدورهم الحصول على أفضل بكثير ممّا حصلوا عليه لو سعى الجميع إلى تبنّي استراتيجية مشتركة لإدارة العلاقة مع الولايات المتحدة في مختلف المجالات.
انعقدت في اليوم التالي لمغادرة ترامب قمّة عربية في بغداد، لم يشارك فيها (على مستوى الرؤساء والملوك) سوى زعماء خمس دول فقط، واكتفت البقية بالمشاركة بوفود على مستوى تمثيل أقلّ.
وأيّاً كان الأمر، لم يختلف البيان الختامي الذي صدر في "القمّة" عن كلّ البيانات الختامية التي صدرت في القمم السابقة، والتي عادةً ما تعجّ بعبارات إنشائية لا تسمن ولا تغني من جوع. وتكفي مقارنة بسيطة بين ما جرى في الرياض والدوحة وأبوظبي، بما جرى في بغداد خلال الأسبوع الماضي، لندرك الوزن الحقيقي للقمم العربية في جدول اهتمامات الدول العربية.
كما يكفي أن نقارن ما جرى في هذه العواصم العربية بما يجري حالياً في قطاع غزّة، لندرك مدى انحدار النظام الرسمي العربي، فعند معبر رفح ما تزال آلاف الشاحنات المحمّلة بالغذاء والدواء تنتظر في صفوف طويلة، لكنّها لا تستطيع التحرّك قيد أنملة لإنقاذ شعب أعزل جائع من براثن نظام عنصري تفوق في وحشيته وإجرامه على النظام النازي نفسه.
أليس من المفارقات أن تتزامن زيارة ترامب للدول العربية الثرية في الخليج، ثمّ انعقاد القمّة العربية في بغداد، مع الذكرى الـ77 لنكبة فلسطين الأولى. فكم من نكبة جديدة ينتظرها النظام الرسمي العربي ليستيقظ من سباته!
ألم يحن الوقت بعد كي تعترف الدول العربية بأن النظام الرسمي الذي أسّسته عام 1945 سقط وانهار بالفعل؟
وأن الحاجة باتت ماسّةً إلى نظام عربي جديد قادر على تحقيق درجة أرقى من التكامل العربي، وعلى مواجهة التحدّيات التي يفرضها الكيان الصهيوني، التي لن تستطيع أيّ دولة عربية أن تواجهها بمفردها؟
حسن نافعة
كاتب وأكاديمي مصري، أستاذ العلوم السياسية في جامعة القاهرة