
من يوقف نتنياهو حين تفشل الرهانات؟
لا يبدو أنّ رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو يعبأ بكلّ ما يجري حواليه من اعتراضات وضجيج سياسي وإعلامي، داخلي وخارجي، محلّي ودولي وإقليمي، فهو ماضٍ في أكثر من محور في تنفيذ أجندته أو تصوّراته الجديدة لإسرائيل، ولتوسيع نطاق المفاهيم الأمنية لها، لتصل إلى مرحلةٍ مختلفة، تتمثّل، على الصعيد الفلسطيني، في مخطّط تهجير واضح، بدايةً من غزّة، مروراً بضمّ مساحة واسعة من الضفة الغربية، وتهويد القدس، وصولاً إلى فرض قواعد جديدة في المنطقة يكرّس نموذج إسرائيل دولةً إقليميةً توسّعيةً،
وليست في حالة دفاع، كما بدت عليه الأمور في المرحلة السابقة على "طوفان الأقصى". على ماذا نراهن إذاً، فلسطينياً بالدرجة الأولى وعربياً بالدرجة الثانية، في إيقاف مخطّط نتنياهو واليمين الإسرائيلي المهيمن والسائد والمسيطر على المعادلة الداخلية في إسرائيل؟
أميركياً، غادر الرئيس دونالد ترامب المنطقة وترك وراءه خيبة أمل كبيرة لدى الحكومات العربية، وتبخّرت التحليلات والتوقّعات المبالغ فيها بأنّه سيُعلن وقف إطلاق النار، أو سيضغط على نتنياهو للقبول بصفقة لتحقيق ذلك.
بل على النقيض، ازدادت حدّة العمليات العسكرية الإسرائيلية وحجمها وخطورتها، واستمرّت في إبادة كبيرة للفلسطينيين، وتضاعفت أعداد الشهداء،
وأُعلِن غداة زيارة ترامب البدءُ بالعملية العسكرية الواسعة التي أُطلق عليها "عجلات جدعون"، وتتضمّن غزواً برّياً من عدّة محاور.
وواضح أنّ الغرض، في نهاية اليوم، إجبار الفلسطينيين على الرحيل، أو حركة حماس على إعلان الاستسلام الكامل. لا يبدو الموقف الأميركي، بالرغم من تصريحاتٍ تحاول تخدير العالم بشأن وقف الإبادة قريباً، جادّاً أو حقيقياً،
وتشي التسريبات الإعلامية الإسرائيلية بأنّ المسؤولين الأميركيين يعلمون تماماً أنّ هذا القرار بيد نتنياهو، ولا أحد غيره،
وهو الذي يعمل من خلال وفد التفاوض في الدوحة في شراء الوقت فقط، والتحايل على الضغط الأميركي للمضي في خطّة لإفراغ غزّة تماماً،
ولن يقبل من "حماس" إلاّ بإفراج عن جميع الأسرى الأحياء والأموات، وإلقاء السلاح، وربّما ممرّاً لأعداد كبيرة منهم للخروج من غزّة، من دون تقديم أيّ ضمانات حقيقية للمرحلة المقبلة.
أظهرت "حماس" مرونة شديدةً في التعامل مع المطالب الدولية، وحتى العربية، وأطلقت سراح الجندي الإسرائيلي الأميركي عيدان ألكسندر،
وتحدّثت أوساط مقرّبة من الموفد الأميركي الخاصّ بشؤون الرهائن آدم بولر عن أنّ هنالك قبولاً مبدئياً من الحركة لهدنة طويلة، والتحوّل نحو العمل السياسي، بل تتضمّن الخطة العربية لإعادة إعمار غزّة عملياً هذا السيناريو، مع إدارة مدنية وقوات عربية ودولية لإدارة القطاع للمرحلة الانتقالية،
لكن ذلك كلّه رفضه نتنياهو، ولم تقبل به الإدارة الأميركية رسمياً، ما يعني أنّ هنالك سيناريو واحد فقط في مخطّط نتنياهو، وأنّه لا يوجد فيتو أميركي حقيقي على ذلك.
هل يمكن أن نراهن على الغضب الدولي والغربي والأوروبي من إسرائيل، وعلى المواقف الأكثر جرأة التي ظهرت من حكومات دول مثل إسبانيا وبلجيكيا وفرنسا ضدّ حرب الإبادة، أو على الحملة الشعبية العالمية المتضامنة مع قطاع غزّة والرأي العام العالمي؟...
هي متغيّرات إيجابية وجيّدة، لكنّها ليست حاسمة، ولن تؤدّي إلى نهاية الجحيم، ومع إدارة ترامب، بدأت عملية حصار لكلّ الحركة الطلابية والجامعية في أميركا، وتنكيل واضطهاد للمحتجّين في صورة لا تحدُث إلاّ في دول ديكتاتورية وشمولية.
ماذا عن الموقف العربي؟...
رغم تحسنّه قليلاً، ورغم الخطّة العربية، وهي خيار الحدّ الأدنى الممكن، والأعلى سقفاً ضمن الواقع الاستراتيجي العربي المتهافت، والصيغة الباهتة التي ظهرت فيها القمة العربية في بغداد،
فمثل هذا الواقع الاستراتيجي والسياسي لن يكون قادراً على بناء توازن قوى، ولا ردع نتنياهو عن المضي في تصوّراته وأجندته، وفرضها في غزّة، وتصاعد العدوان في الضفة الغربية لاحقاً.
حاولت دول عربية تقديم خططٍ وتصوّراتٍ بديلة تضعف أجندة نتنياهو، وضُغِط على الرئيس محمود عبّاس لتعيين نائبٍ له، و"إصلاح" السلطة الفلسطينية (كلمة إصلاح هنا ضبابية قد تعني أموراً كثيرة، وبحسب من يطلقها وما هي أهدافه).
لكن، من الواضح أنّ هذه المحاولات لا تزال غير مؤثّرة ولا مفيدةً كثيراً في ردع مخطّط نتنياهو، ضمن حالة متدهورة أيضاً تعيشها السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية، وبروز حالة من العجز والضغوط الاقتصادية والسياسية والأمنية التي تواجهها مع إسرائيل.
هل هي المعادلة الداخلية الإسرائيلية، وازدياد حركة الاحتجاج على نتنياهو ، ودور القوى السياسية الأخرى؟...
من الواضح أنّها ليست عاملاً حاسماً، بالرغم من استطلاعات الرأي والحملات الشعبية وتزايد خصوم نتنياهو في داخل الكيان، وربّما ليس الاختلاف حول أهداف الحرب على غزّة فقط، بل أيضاً قضايا داخلية تضعف نتنياهو،
لكن من الواضح أنّ التكتل الحكومي الذي يقوده لا يزال قادراً على الاستمرار والصمود.
على صعيد خارجي، لا يبدو الوضع أفضل في لبنان، وفي سورية بدرجة أكبر، إذ بالرغم من قرار ترامب رفع العقوبات (أو تجميدها) عن سورية، فهنالك فريق يميني حوله بدأ فوراً منذ اللحظة الأولى بإضعاف القرار، ووضع اشتراطات وقيود ومحدّدات على الحكومة السورية،
وأعلنت إسرائيل كذلك استعادة أرشيف جاسوسها إيلي كوهين (أُعدم في سورية في 1965)، في ما وصفتها بعملية أمنية، والغرض منها سياسي ورمزي بامتياز، يُضعف من شرعية الحكومة السورية الجديدة وصورتها في الداخل وفي العالم العربي والإسلامي،
ويثير حالةً من الإحباط والغضب والتوتّر في الداخل السوري، وإظهار إسرائيل قوّةً إقليمية قادرةً على القيام بأمورٍ كثيرة حتى خارج حدودها.
لا يوجد ما يؤكّد صحّة الأخبار أو الدعايات عن محاولات إسرائيلية لاغتيال أحمد الشرع، لكنّ هذه "الأخبار" في حدّ ذاتها رسالة سياسية خطيرة له وللنظام السوري الجديد، بل لوحدة سورية نفسها،
بالإضافة إلى تقارير عديدة تُسرَّب عن لقاءات بين سياسيين سوريين وإسرائيليين، وذلك كلّه جزء من عملية بناء صورة جديدة لإسرائيل في المنطقة وتهديد سورية.
وفي الحدّ الأدنى، تتمثّل أجندة إسرائيل في سورية اليوم في دولة ضعيفة هشّة، مخترقة، بلا سلاح فعّال، لن تشكّل خطراً حالياً أو لاحقاً على الكيان.
هذا هو الواقع اليوم. ما العمل؟ كيف نوقف مخطّط نتنياهو؟ كيف يتم ردعه؟...
الجواب معروفٌ لكلّ واحد فينا، لا ردع من غير قوة. إذا لم تتوافر القوة، فالدبلوماسية منزوعة الأنياب لن تكون كافيةً ولا قادرةً على ذلك.
عربياً، الموقف ضعيف ومفكّك ومحدود جدّاً. فلسطينياً، موازين القوة مختلّة بالكلّية. دولياً، الرهان على الموقف الأميركي لا يبدو فعّالاً. نحن أمام كارثة أكبر في الأيام المقبلة.
الصيحة التي أطلقها المناضل والمثقّف والسياسي الفلسطيني مصطفى البرغوثي في مقالته "لا مكان للحياد ولم يعد الصمت ممكناً تمثّل الخيار الوحيد؛ الصمود والبقاء في الأرض، في غزّة والضفة الغربية والقدس.
ولست متفائلاً بتغييرات جذرية في المقاربة العربية. "لن نرحل، ولن ننكسر، ولن نتراجع"، هكذا تحدّث البرغوثي، وهذا المطلوب أن يكون عنوان المشروع الفلسطيني في المرحلة المقبلة،
وعلى السلطة والقوى والشباب والمثقّفين الفلسطينيين أن يقرؤوا الأجندة والمعادلة الراهنة كما هي، ولا يغرقوا في أوهام وحسابات لن تؤدّي إلاّ إلى منح نتنياهو مزيداً من الوقت والمساحة لينفذّ ما يريد.
محمد أبو رمان
أستاذ العلوم السياسية بالجامعة الأردنية والمستشار الأكاديمي في معهد السياسة والمجتمع.