
صناعةُ الذات: رحلةُ النشوءِ والارتقاءِ
يا أيها السالكُ دروبَ الوجودِ، المتأملُ في سرِّ هذا الكائنِ المُسمى بالإنسانِ، إنَّ قضيةَ "صناعةِ الذاتِ" لهيَ أعمقُ غوراً من مُجردِ اكتسابِ المعارفِ وتكوينِ الخبراتِ.
إنها رحلةٌ أزليةٌ، تبدأُ مع أولِ شهقةٍ للحياةِ، وتمتدُّ بامتدادِ الأيامِ والليالي، رحلةُ تشكُّلٍ ونُموٍّ وارتقاءٍ لا تعرفُ محطةً نهائيةً إلا بانتهاءِ الأجلِ.
إنَّ الإنسانَ ليسَ قالباً مُصمتاً، أو تمثالاً جامداً، بل هوَ كائنٌ مُتجددٌ، مشروعٌ مفتوحٌ على احتمالاتٍ لا تُحصى.
في كلِّ لحظةٍ، تتشكلُ ملامحُ ذاتهِ بتأثيرِ التجاربِ، وتتلوَّنُ روحهُ بألوانِ الأحداثِ، وتتسعُ آفاقُ وعيهِ باستقبالِ المعارفِ والأفكارِ.
إنَّها سيمفونيةٌ كونيةٌ تُعزفُ على أوتارِ الوجودِ الفرديِّ، وكلُّ نغمةٍ فيها تُضيفُ بُعداً جديداً لِتلكَ اللوحةِ الفسيفسائيةِ التي تُسمى "أنا".
وفي خضمِّ هذهِ الرحلةِ المُباركةِ، تطلُّ علينا "الثقافةُ" لا كحزمةٍ من المعلوماتِ الجاهزةِ، بل كنورٍ يُضيءُ الدربَ، وماءٍ يروي الظمأَ، وهواءٍ نقيٍّ يُنعشُ الروحَ.
إنها ليستْ مُجردَ حشوٍ للذهنِ بالحقائقِ والأرقامِ، بل هيَ تفاعُلٌ حيٌّ معَ العالمِ، وشغفٌ مُلِحٌّ بالاستكشافِ، وعشقٌ أبديٌّ لِجمالِ الكلمةِ وسحرِ الفكرةِ.
فالمُثقفُ الحقُّ ليسَ هوَ من يحملُ أطناناً من الكتبِ في ذاكرتِهِ أو يُرصِّعُ جدرانَهُ بالشَّهاداتِ.
إنَّهُ ذلكَ الروحُ المُتفكرةُ التي لا تهدأُ عنِ السؤالِ، وذلكَ العقلُ الناقدُ الذي لا يستسلمُ للتَّلقينِ، وتلكَ البصيرةُ النافذةُ التي ترى ما وراءَ الظواهرِ.
إنَّ ثقافتَهُ ليستْ مُجردَ مُخزونٍ راكدٍ، بل هيَ ينبوعٌ فياضٌ بالحياةِ، يُحركهُ نهمٌ للمعرفةِ، ويُوجههُ نورُ الحكمةِ.
هذا الكائنُ المُستنيرُ، الذي شذَّبَ عقلَهُ بمنطقِ الحُجةِ، وهذَّبَ روحهُ بجمالِ الفنِّ والأدبِ، يُصبحُ قنديلاً يُضيءُ عتمةَ الجهلِ من حولهِ.
إنَّ وعيَهُ العميقَ بالقضايا المُعاصرةِ، وقدرتَهُ الفائقةَ على التحليلِ والتَّركيبِ، تُمكِّنانهُ من تقديمِ رؤىً ثاقبةٍ وحلولٍ مُبتكرةٍ للتحدياتِ التي تواجهُ مجتمعَهُ.
كلماته ليستْ مجردَ أصواتٍ مُتناثرةٍ، بل هيَ سهامٌ من نورٍ تخترقُ حُجبَ الغفلةِ، وأفعالُهُ ليستْ حركاتٍ عابثةً، بل هيَ نماذجُ حيةٌ لقيمٍ ساميةٍ.
ولكنْ، يا لَمرارةِ الواقعِ، تظهرُ في ساحةِ الفكرِ أصواتٌ نشازٌ، وأشباهُ مُثقفينَ يتسترونَ بعباءِةِ المعرفةِ زوراً وبهتاناً.
إنهم أولئكَ الذينَ قنعوا بقشورِ العلومِ، واكتفوا بترديدِ المُصطلحاتِ الرنانةِ دونَ فهمٍ حقيقيٍّ لِمضامينِها.
إنهم كالأوعيةِ الفارغةِ التي تُحدثُ ضجيجاً عالياً، ولكنها لا تحملُ في جوفِها شيئاً يُروي الظمأَ أو يُشبعُ الجوعَ.
والمُصيبةُ الكبرى تكمنُ في أنَّ هؤلاءِ المُدَّعينَ قد يجدونَ آذاناً صاغيةً وعقولاً مُستسلمةً في مُجتمعٍ يفتقرُ إلى أدواتِ التَّمييزِ النقديِّ.
إنَّ بريقَ كلماتِهِم الزائفِ، وثقتَهُم المُصطنعةِ بأنفسِهِم، قد يُعمي بصيرةَ الكثيرينَ، ويُوقعَهُم في شَرَكِ التَّضليلِ.
وهكذا، تنتشرُ الأفكارُ الهشةُ، وتترسخُ المفاهيمُ الخاطئةُ، ويُعاقُ نموُّ الوعيِ الحقيقيِّ.
إنَّ خطرَ هؤلاءِ ليسَ هيناً، فهمْ لا يُضلِّلونَ أنفسَهُم فحسب، بل يُعيقونَ مسيرةَ التقدمِ في المُجتمعِ بأسرِهِ.
إنهم يُشوشونَ الحقائقَ، ويُثيرونَ الفتنَ، ويُعيقونَ الحوارَ البنَّاءَ، وينشرونَ ثقافةَ السطحيةِ والتَّلقينِ الأعمى، مُحوِّلينَ الساحةَ الفكريةَ إلى ساحةٍ للعراكِ اللفظيِّ بدلاً منَ التلاقحِ الإبداعيِّ.
في المُقابلِ، فإنَّ المُجتمعَ النَّاهضَ هوَ الذي يُجلُّ قيمةَ المُثقفِ الحقيقيِّ، ويُعلي من شأنِهِ، ويوفرُ لهُ المنابرَ التي يُمكنُهُ من خلالِها بثَّ الوعيِ وتنويرَ العقولِ.
وهوَ أيضاً المُجتمعُ الذي يُسلِّحُ أفرادَهُ بأدواتِ التفكيرِ النقديِّ، ويُحصِّنُهُم ضدَّ سُمومِ الادعاءِ والتَّضليلِ، ليُصبحوا قادرينَ على التَّمييزِ بينَ الجوهرِ والمظهرِ، وبينَ العمقِ والسطحيةِ.
إنَّ صناعةَ الذاتِ الإنسانيةِ ليستْ هدفاً نهائياً نصلُ إليهِ، بل هيَ مسيرةٌ مُستمرةٌ، لا تعرفُ الكللَ أو المللَ.
والسبيلُ إلى تنويرِ هذهِ الذاتِ ثقافياً يكمنُ في إيقادِ شعلةِ المعرفةِ في القلوبِ، وتنميةِ الشغفِ بالاستطلاعِ في العقولِ، وترسيخِ مبادئِ التفكيرِ النقديِّ المُستقلِّ.
إنها مسؤوليةٌ مُشتركةٌ تقعُ على عاتقِ الفردِ والمُجتمعِ على حدٍّ سواءٍ، مسؤوليةٌ تقتضي السعيَ الدَّؤوبَ نحو الحقيقةِ والوعيِ، واليقظةَ الدائمةَ من براثنِ الادعاءِ والتَّضليلِ.
بقلم: أ. عبدالله الشرعبي