
الإنتاج الفكري: سفر في عوالم الوجود والمعنى
دعني أهمس في أذنك سرًا عتيقًا قدم الزمان، حكمة تتلألأ في دياجير الجهل، نورًا يبزغ من رحم العتمة: "وخير جليس بالزمان كتاب".
ليست هذه مجرد عبارة عابرة، بل هي بوصلة ترشد التائهين في صحراء الحياة، ومركب نجاة يحملنا فوق أمواج الفتن.
فما بالنا اليوم وقد هجرنا هذا الجليس الوفي، واستبدلنا به سرابًا لامعًا يروي ظمأ الروح قليلًا ثم يتركه قاحلًا؟
إن الإنتاج الفكري ليس مجرد تدوين لأفكار عابرة أو رصف لكلمات جوفاء.
إنه عملية ولادة لعوالم جديدة، نفخ للروح في هياكل المعرفة، ومدّ لجذور الوعي في أعماق التربة الإنسانية.
إنه سفر عميق في أروقة الذات وفي دهاليز الكون، بحث دائم عن المعنى، ومحاولة للإجابة على تلك الأسئلة الكبرى التي تؤرق الوجود الإنساني منذ فجر التاريخ: من نحن؟
وإلى أين نمضي؟ وما هو سرّ هذا الوجود العجيب؟
تأمل معي تلك اللحظة الساحرة حين يفتح القارئ صفحة كتاب.
أليس هذا أشبه بولوج بوابة سحرية تنقله إلى زمان ومكان آخرين؟
إنه يغادر واقعه المحدود ليحلّق في فضاءات لم تطأها قدماه، ليصاحب شخصيات لم يلتقِ بها، وليختبر أحداثًا لم يعشها.
وفي هذا التجوال الروحي، تتسع مداركه، وتتهذب مشاعره، وتنمو بذور الحكمة في عقله الباطن.
إن الكتاب هو مرآة تعكس لنا ذواتنا من زوايا مختلفة، وترينا العالم بعيون الآخرين. إنه حوار صامت مع عقول عظيمة تركت بصماتها على جبين التاريخ.
نقرأ لأرسطو فننغمس في منطق الفكر، ونستمع إلى أفلاطون فنتسامى في عالم المُثل، ونتأمل مع ابن خلدون فندرك سنن التاريخ وتقلبات الحضارات.
وفي كل صفحة نقلبها، نزداد وعيًا بذواتنا وبالعالم من حولنا.
أما عن الواقع، فإنه ليس ذلك المشهد الجامد الذي نراه بأعيننا المجردة، بل هو نسيج متشابك من الأفكار والقيم والمعتقدات التي تشكل وعينا وتوجه سلوكنا.
والإنتاج الفكري هو الخيط الذهبي الذي ينسج هذا النسيج، فهو يضيء الزوايا المظلمة، ويكشف الزيف، ويحث على التفكير النقدي المستقل.
المجتمع الذي يُعلي من شأن الفكر ويشجع على القراءة هو مجتمع حصين، قادر على مواجهة التحديات وتجاوز الأزمات، لأنه يمتلك سلاح الوعي والبصيرة.
تخيل معي مجتمعًا يعيش أفراده على فتات الأفكار المستوردة، يستهلكون ما يُملى عليهم دون تمحيص أو تدقيق.
أليس هذا المجتمع أشبه بالشجرة التي قطعت جذورها، سرعان ما تذبل وتسقط مع أول عاصفة؟
أما المجتمع الذي يغذي عقله بإنتاجه الفكري الخاص، الذي يطرح الأسئلة ويسعى للإجابات، الذي يجادل ويناظر، فهو كالشجرة العريقة التي تضرب بجذورها في أعماق الأرض، تقاوم الرياح العاتية وتثمر أطيب الثمار.
إن الإنتاج الفكري هو صرخة مدوية في وجه الجهل والتطرف والتعصب. إنه النور الذي يبدد ظلام الخرافات والأوهام التي تستعبد العقول وتشلّ الإرادات.
الإنسان الذي يمتلك وعيًا مستنيرًا هو إنسان حرّ، قادر على اتخاذ قراراته بنفسه، غير خاضع لسلطة زائفة أو تأثير مضلل.
إنه قائد في محراب ذاته، وصاحب رؤية في مجتمعه.
فلنجعل من الكتاب رفيقًا دائمًا، ومن القراءة فعلًا مقدسًا. لنفتح نوافذ عقولنا على تدفق الأفكار الخلاقة، ولنساهم جميعًا في إثراء الإنتاج الفكري لأمتنا.
عندها فقط، سنستعيد مكانتنا اللائقة بين الأمم، وسنضيء دروب المستقبل بأجيال واعية ومستنيرة، تحمل مشاعل المعرفة وتنير بها طريق النهضة والتقدم.
بقلم: أ. عبدالله الشرعبي