
الذكاء الاصطناعي في الأدب: دعم مشروع أم خيانة للإبداع؟
انفتحت قطاعات متعددة على الذكاء الاصطناعي، مستفيدة من مزاياه المتنوعة. في المقابل، أغلق الحقل الأدبي أبوابه في وجه هذه التقنية، معبّرا عن ارتيابه وقلقه. وقد أصبح مجرد الحديث عن الذكاء الاصطناعي في الأوساط الأدبية أشبه بالأشياء المحرَّمة. وبينما سارعت بعض المؤسسات إلى فرض إجراءات صارمة، رافضة أي عمل أدبي يُشتبه في الاستعانة فيه بالذكاء الاصطناعي، حتى لو بشكل طفيف، برزت أصوات تنادي باستخدام هذه التقنية ضمن حدود أخلاقية، مع الالتزام بالإفصاح عن ذلك.
غير أن هذه المبادئ التوجيهية لا تزال غامضة، وهو ما دفعني إلى كتابة هذه المقالة التي أطمح من خلالها، إلى تقديم مقترحات والمساهمة في وضع قواعد واضحة تنظّم استخدام الذكاء الاصطناعي في مجال الكتابة الأدبية.
استخدام الذكاء الاصطناعي في البحث
تتطلب بعض الأصناف الروائية، مثل القصص التاريخية، وروايات الخيال العلمي، والروايات المقتبسة من قصص واقعية، عادة بحثا دقيقا لفهم الزمن والمكان والشخصيات فهما صحيحا. وبدلا من استخدام طرق البحث التقليدية البطيئة والمجهدة، يستطيع المؤلف الاستفادة من الذكاء الاصطناعي في هذه العملية،
فأدوات الذكاء الاصطناعي قادرة على تلخيص الكتب والمقالات والوثائق التاريخية بسرعة قياسية، ما يسمح له بإدراك التفاصيل دون الحاجة إلى مطالعة المراجع برمتها. وتساعد هذه الأدوات على التأكد من صحة المعلومات والتواريخ والمواقع وتسلسل الأحداث الواقعية لضمان دقة السرد،
بالإضافة إلى ذلك، يمكن للذكاء الاصطناعي توفير معلومات أساسية قيّمة عن السياقات التاريخية والثقافية والسياسية والاجتماعية، ما يساعد الكاتب على تصوير مشاهد واقعية.
كما يمكنه إنشاء جداول زمنية بصرية، ومراجع جغرافية للحفاظ على توافق الحبكة وتطورات المشاهد الواقعية. ويمكن للذكاء الاصطناعي أيضا كشف القضايا الحساسة أثناء معالجة الكاتب للنِكبات التاريخية، أو الهويات الثقافية، ما يسمح له بعرض عمل أدبي يتسم بالوعي الأخلاقي واحترام الحساسيات الثقافية.
لا ضرر إطلاقا في استخدام الذكاء الاصطناعي أداة للبحث؛ فذلك أشبه بلجوء الكاتب إلى الإنترنت لجمع المعلومات، مع فارق جوهري ـ إذ يتطلب البحث التقليدي التنقّل بين مصادر متعددة وفرز كم كبير من البيانات، بينما يقدّم الذكاء الاصطناعي إجابات أكثر دقة وتركيزا، مما يوفر الوقت والجهد.
وضع الخطوط العريضة للروايات
يُعدّ استخدام الذكاء الاصطناعي في تخطيط الرواية، أمرا أخلاقيا مفيدا عندما يكون الكاتب ملمّا بالقصة والحبكة والثيمات التي يسعى إلى تناولها.
فالذكاء الاصطناعي في هذا السياق لا يحل محل الكاتب، بل يُمثّل أداة فعّالة لتسهيل عملية الكتابة، من خلال المساعدة على تنظيم المشاهد، وإنشاء صيغ متعددة للنص، والحفاظ على اتساق السرد، وتحسين وتيرته عبر فصول الرواية.
كما يمكنه الاستجابة فورا لطلبات التعديلات الأسلوبية، واقتراح صيغ أوضح، أو تقديم تصورات جديدة للمشهد، دون المساس بالرؤية الأصلية للكاتب.
وبينما قد يتعرض المصحح البشري للإرهاق والانشغال، يوفّر الذكاء الاصطناعي دعما متواصلا على مدار الساعة، ويقدّم ملاحظات فورية في بيئة من السرية التامة، ما يمنح الكاتب تحكما كاملا في العملية الإبداعية.
ولا عيب في ذلك، فالمحتوى يظل من صياغة الكاتب وتوجيهه، لا من إنتاج الذكاء الاصطناعي. فدور الذكاء الاصطناعي هنا يقتصر على المساعدة، لا التأليف.
وهكذا، يُعدّ استخدامه امتدادا طبيعيا للعملية الإبداعية، يعزّز الإنتاجية مع الحفاظ على أسلوب الكاتب وصوته.
التدقيق اللغوي والإملائي
ويمكن استخدام الذكاء الاصطناعي وفق المعايير الأخلاقية أيضا لتصحيح النصوص، وذلك بمساعدة الكاتب على تحديد الأخطاء الإملائية الشائعة، وأخطاء علامات الترقيم وتصحيحها دون تغيير المحتوى أو القصد.
يمكن للمؤلف، على سبيل المثال، الاستعانة بالذكاء الاصطناعي لتصحيح الأخطاء الإملائية والنحوية والصرفية، مثل مطابقة، أو مخالفة العدد للمعدود في التذكير والتأنيث، وعدم حذف حرف العلة من الفعل المضارع المجزوم المعتل الآخر، وعدم تطبيق قاعدة الحروف الناسخة، وعدم مطابقة النعت للمنعوت في الإعراب، وغير ذلك.
كما يساعد الذكاء الاصطناعي على ضمان اتساق أزمنة الأفعال وقواعدها النحوية، مما يساهم في إصدار أعمال صحيحة وواضحة، مجردة من الأخطاء المتكررة في الأعمال الأدبية المنشورة.
ويمكننا استخدام التقنية في التنقيط، بإضافة الفواصل المفقودة أو تصحيح ما ليس في محله، فضلا عن حذف الكلمات المكررة والأخطاء البسيطة التي يتغافل عنها المصححون البشر.
فقد أثبت الذكاء الاصطناعي قدرة فائقة وفعالية في اكتشاف هذه الأخطاء وتصحيحها في أوقاتٍ قياسية. ولا عيب في استخدام الذكاء الاصطناعي في مهماتٍ مماثلة؛
فالبشر يمارسون هذا الدور منذ اجيال، ولا يُنتج الذكاء الاصطناعي محتوى جديدا، بل يدعم الكاتب بضمان سلاسة النص ودقته واتساقه.
تحسين الأسلوب وتسهيل القراءة
وينبغي أيضا السماح للكُتّاب باستخدام أدوات الذكاء الاصطناعي لتحسين الأسلوب والنبرة وتسهيل القراءة، تماما مثلما يفعل المُحرّرون البشريون.
إذا كان مسموحا لشخص ما بمساعدة الكاتب على توضيح الجمل المُربكة، أو اقتراح خيارات أفضل للكلمات، فينبغي السماح للذكاء الاصطناعي أيضا بالمساهمة بطرق مماثلة.
على سبيل المثال، يُمكن للذكاء الاصطناعي توضيح النص وتسهيل القراءة بإعادة صياغة الجمل المُربكة، أو اقتراح مفردات أكثر سلاسة، أو بتقسيم الجمل والفقرات الطويلة والمُعقّدة لتسهيل فهم النص.
مثال بسيط على ذلك هو تغيير عبارة «ركضت بسرعة كبيرة للوصول إلى الحافلة قبل أن تغادر» إلى «ركضت لإدراك الحافلة قبل مغادرتها».
يبقى المعنى كما هو، لكن الجملة تُصبح أوضح وأقوى، دون المساس بأصالة الكتابة أو مصداقيتها. الهدف هو إيصال الأفكار بفعالية، وسواء أتى هذا الدعم من إنسان أم ذكاء اصطناعي، يجب اعتبار ذلك جزءا لا يتجزأ من العملية الإبداعية.
ضمان الاتساق
يمكن للذكاء الاصطناعي أن يكون أداة فعّالة تساعد الكتّاب على ضمان الاتساق في اللغة والأسلوب، تماما كما يفعل المحرر البشري.
فعلى سبيل المثال، قد يستخدم الكاتب، دون قصد، مفردات تختلف من منطقة إلى أخرى، مثل «مرض السيدا» في بلدان المغرب العربي مقابل «مرض الأيدز» في المشرق، أو «عقد الازدياد» بدل «شهادة الميلاد»، ومزجها ببعضها.
هنا يتدخل الذكاء الاصطناعي لاكتشاف مثل هذه الاختلافات وتصحيحها بما يضمن توحيد المصطلحات داخل النص.
كما يمكنه مراجعة عناصر التنسيق كالعناوين وأنماط الخط وأحجامها لضمان انسجام الشكل والمضمون. إلى جانب ذلك، يستطيع الذكاء الاصطناعي التنبيه إلى أي فجوات أو قفزات مفاجئة في التسلسل.
ولا بأس في استخدام هذه التقنية في مثل هذه الوظائف. مثلما يحق للكاتب الاستعانة بمحرر بشري لتجويد عمله، يحق له الاعتماد على الذكاء الاصطناعي مساعدا يعزز وضوح النص وترابطه.
الذكاء الاصطناعي يخدم الأصوات العالمية
يواجه الكتّاب غير الناطقين باللغة الإنكليزية تحديات كبيرة عند الانتقال إلى الكتابة بها، مثل استخدام تعبيرات غير مألوفة، أو الوقوع في أخطاء نحوية وتناقضات دقيقة، لا يواجهها عادة الكتّاب من أهل اللغة.
ومع ذلك، لا تقلل هذه الصعوبات من عمق أفكارهم أو ثراء تجاربهم، أو قدرتهم على إثراء الأدب العالمي، بل تعكس ببساطة تعقيدات التعامل مع لغة ليست لغتهم الأم.
يمكن للذكاء الاصطناعي أن يكون أداة مساعدة فعّالة، تسهم في سد هذه الفجوة من خلال اقتراح تعديلات دقيقة تُحسِّن التوازن والوضوح وسهولة القراءة، دون المساس بأسلوب الكاتب أو صوته الخاص.
وبما أن العديد من الكتّاب غير الناطقين بالإنكليزية يعتمدون بالفعل على محررين بشريين لصقل أعمالهم، فإن استخدام الذكاء الاصطناعي لهذا الغرض لا يختلف من حيث المبدأ، بل هو وسيلة أسرع وأيسر وأقل تكلفة للحصول على نص متقن وجذّاب.
فالهدف ليس إعادة كتابة النص، بل تحسين التعبير، وتمكين الكاتب من إيصال أفكاره بوضوح وثقة إلى القارئ العالمي.
حرية المؤلف في استخدام الذكاء الاصطناعي
وإني في الختام أدعو إلى تأمل هذه المقترحات. وأود أن أكون من أوائل الأصوات التي تؤيد حق الكتّاب في استخدام الذكاء الاصطناعي، كمساعد في الكتابة، ضمن ضوابط واضحة ومحددة.
فكثيرا ما يوصف مصطلح «الحدود الأخلاقية» بالضبابية، إذ يفتقر إلى التوجيه العملي. لذلك، أقترح قاعدة بديلة أكثر وضوحا: السماح للذكاء الاصطناعي بأداء أي مهمة يقوم بها عادة المحرر البشري.
وتشمل هذه المهام التدقيق اللغوي، وتحسين الصياغة والأسلوب، وتحديد التناقضات ومعالجتها، واقتراح العناوين، وتلخيص المحتوى، والتوصية بتعديلات هيكلية، وكلها مهام تحريرية تقليدية لطالما اضطلع بها المحررون البشر منذ عقود.
فلا يوجد ما يبرر استثناء الذكاء الاصطناعي من أداء مثل هذه الأدوار.
وللكتّاب غير الناطقين بالإنكليزية مبررات أعمق في استخدام أدوات الذكاء الاصطناعي، فعلى الرغم من إتقاننا اللغة، قد نواجه صعوبات في تركيب الجمل أو الحفاظ على تماسك الصياغة، ما قد يؤثر في وضوح النص وانسيابه.
وهنا تبرز فائدة الذكاء الاصطناعي كمساعد يسهّل القراءة دون المساس بالأفكار الأصلية، أو النبرة الشخصية، مما يساهم في جعل النص أكثر قدرة على الوصول إلى القراء حول العالم، ويعزز حضورنا في الأدب العالمي.
وقد تواصلت مؤخرا مع الكاتب والناشر الكندي شين جوزيف، وشعرت بالتشجيع، حين علمت بأنه يستخدم الذكاء الاصطناعي في الكتابة مساعدا في تقييم المخطوطات، والتدقيق اللغوي، وتحضير الكتب الصوتية.
ومع ذلك، يحرص شين على التمييز بين المساعدة والتأليف. فهو يرى أن الذكاء الاصطناعي ينبغي أن يدعم المحتوى لا أن يُنتجه، وألا يحل محل الإبداع البشري.
وهذا النهج يتوافق تماما مع ما أؤمن به، ويقدّم نموذجا عمليا لكيفية تفاعل الكتّاب والناشرين مع هذه التقنية ضمن إطار أدبي مسؤول.
أخيرا، إذا التزمنا بالقاعدة التي أوصي بها، وهي معاملة الذكاء الاصطناعي كما يُعامل المحرر البشري، فإني اقترح ألا يُفرض الإفصاح عن استخدامه عندما يُوظف بطريقة مماثلة.
لطالما استعان الكُتّاب بالمحرّرين دون أن يُطلب منهم الإفصاح عن ذلك، والمبدأ نفسه يجب أن يُطبّق هنا. ما دام الذكاء الاصطناعي لا يُعد مؤلفا مشاركا، بل مجرد مساعد في التحرير، فلا يوجد مسوّغ لمطالبة الكاتب بالإفصاح عن استخدامه.
مولود بن زادي
كاتب جزائري