
عندما يتحدّث علي سالم البيض...
في البداية، ليس في وسع قارئ منصف للتاريخ اليمني الحديث إلّا أن يضع نائب الرئيس اليمني الأسبق علي سالم البيض في مكانة متقدّمة بين زعماء اليمن المعاصرين، فهو الصانع الأبرز للوحدة اليمنية، والرجل الذي شكّلت اندفاعته الوحدوية العصا السحرية لتحقيق هذا الحلم. قدّم البيض تنازلاتٍ كبيرةً للوصول إلى إعلان الوحدة في 22 مايو/ أيار 1990، أبرزها تنازله عن مكانة الرجل الأوّل في دولة الوحدة، متجاوزاً الحسابات الشخصية بحماسة وطنية نادرة. وهنا يناقش كاتب هذه السطور كتاب بشير البكر "علي سالم البيض... الوحدة والانفصال" (الدار الأهلية للنشر والتوزيع، عمّان، 2025)، الكتاب الذي تأخّر نشره ما يقارب 15 عاماً، وهو بين منزلتَين، كما يصفه البكر "ليس حواراً صحافياً بحتاً ولا مذكّرات شخصية صرفة، بل شهادة تاريخية ناتجة عن حوار بين البكر والبيض. يهدف الكتاب إلى إلقاء الضوء على مرحلة حاسمة من تاريخ اليمن من خلال شهادة أحد أبرز صناع الوحدة".
تكمن أهمية هذه الشهادة في مكانة البيض وتاريخه النضالي، فقد ترك دراسته الجامعية في هندسة الميكانيك بجامعة القاهرة في الخمسينيّات ليعود إلى عدن، حيث شارك في تأسيس الجبهة القومية، الفرع اليمني لحركة القوميين العرب، التي أعلنت الكفاح المسلّح ضدّ الاستعمار البريطاني في جنوب اليمن. الكتاب، رغم حجمه الصغير، صيغ بعناية وحذر. ربّما تجاهل بعض التفاصيل، لكنّه ركّز في محطّات محدّدة من تاريخ اليمن وأدوار البيض فيها، خاصّة مسألة الوحدة اليمنية، الحدث الأبرز ليس في تاريخ اليمن فحسب، بل في المنطقة العربية، لا سيّما أنها أُعلنت عشية انهيار الاتحاد السوفييتي ودخول النظام الدولي مرحلة القطب الأوحد.
يتناول الكتاب بدايات البيض في غيل باوزير بحضرموت، حيث تلقّى تعليمه الأوّلي وانخرط في الأنشطة السياسية والفكرية. انتقل لاحقاً إلى عدن في منتصف الخمسينيّات لإكمال دراسته الثانوية،
فتعرّف على علي السلامي، أحد مؤسّسي حركة القوميين العرب في اليمن، الذي استقطبته الحركة عام 1960، وهو العام الذي تخرّج فيه البيض في الثانوية الصناعية بعدن.
عاد البيض إلى حضرموت برفقة صديقه حيدر أبو بكر العطّاس، وكان من المفترض أن يؤدّيا الخدمة ثلاث سنوات قبل الالتحاق بمنحة دراسية في بريطانيا.
لكن بسبب مواقفهما السياسية، حُرما من المنحة، فابتعثا إلى القاهرة بدعم من جمعية خيرية حضرمية والنادي الثقافي بعدن.
في القاهرة، فضّل البيض الالتحاق بكلّية عسكرية، لكنّ طلبه رُفض لارتباطه بحركة القوميين العرب، فسجّل في المعهد التقني العالي بقسم الهندسة الميكانيكية. في سنته الثالثة،
استدعته الجبهة للعودة إلى اليمن، وتحديداً إلى تعز، للانضمام إلى المكتب العسكري، حيث بدأ الكفاح المسلّح ضدّ البريطانيين.
يتوقف الكتاب عند أحداث 13 يناير/ كانون الثاني 1966، المتعلّقة بدعم نظام عبد الناصر وتشكيل جبهة التحرير، إذ ضغط المصريون على الجبهة القومية للانضمام إليها، لكن قيادات مثل قحطان الشعبي وفيصل عبد اللطيف وعبد الفتّاح إسماعيل والبيض رفضوا ذلك.
عقدت الجبهة مؤتمرات عدّة، آخرها المؤتمر الثالث في حُمر في ديسمبر/ كانون الأول 1966، الذي قرّر الانسحاب من جبهة التحرير واستقلال الجبهة القومية، مؤكّداً استعدادها لإقامة وحدة وطنية على أسس ثورية.
وتسبّب هذا القرار في أزمة مع عبد الناصر وحركة القوميين العرب، وخلال تلك المرحلة العصيبة، بدأ تشكّل هُويَّة الحركة الوطنية اليمنية واستقلالها عن التيّارات الناصرية والقومية.
أحداث ذلك الصراع عزّزت استقلالية الجبهة القومية، لكنّها كلّفتها خسارة الدعم السياسي والمالي والعسكري، ما دفعها للاعتماد على مواردها الذاتية. في ظلّ هذه الظروف، تشكّلت شخصية علي سالم البيض، القومي الحالم الذي يسعى بكل جهد لتحقيق أفكاره.
تجلّى ذلك في مواقفه ومحطّاته التاريخية، فكان من المناضلين الصادقين الذين يبنون تصوّراتهم بعاطفة وأحلام طوباوية، ويسعون بكلّ قوة لتحقيقها.
بالعودة إلى بعض القضايا المهمّة التي تطرّق إليها الحوار، وهي قضايا جدلية أثُير حولها كثير من النقاش (ولا يزال)، لكن البيض تناولها وكأنّها مسلّمات لا تقبل النقاش،
وفي مقدّمة ذلك جدلية أن الحزب الإشتراكي اليمني بقيادة أمينه العام علي سالم البيض، حينما قرّر الذهاب إلى الوحدة الاندماجية، كان ذلك (بحسب خصومهم) هروباً من وضع سياسي واقتصادي بائس في الجنوب، خلّفته أحداث 13 يناير 1986 الدامية.
وهذا ما نفاه البيض طبعاً في شهادته هذه بقوله "إن الكلام الذي يقول إننا ذهبنا إلى الوحدة بسبب سقوط الاتحاد السوفييتي كلام لا أساس له من الصحّة،
وهو نوع من الدسّ المُغرِض، لأن قدرتنا على امتصاص أزمة كانون الثاني (يناير) وإعادة إعمار البلاد خلال وقت قصير وقدرتنا على رسم المستقبل، فتحت أمامنا الكثير من الأبواب.
وأقول بصراحة إنه في اللحظة التي بدأ فيها الاتحاد السوفييتي الدخول في طور الضعف ومواجهة المشاكل كنا نحن في وضع صحّي ونسير في اتجاه صاعد، وذلك لأن قدرتنا على معالجة الملفّ الداخلي أمدّتنا بثقة، وجدت صداها في المحيطَين الإقليمي والدولي" (ص 177).
يأتي هذا الطرح الذي قدّمه البيض في إطار ردّه على منتقديه من رفاقه وخصومه، لكنه أيضاً متناقض مع يقوله البيض نفسه في ثنايا هذا الكتاب، خاصّة في ما يتعلّق بالفشل الكبير الذي كان يقود تجربة اليسار في جنوب اليمن، وتحميل معظم ذلك الإخفاق لمنظّري التجربة من الرفاق العرب مثل نايف حواتمة وغيره،
وهو ما دفع البيض في هذا الكتب إلى القول إنه لم يكن لهم أيَّ برنامج حزبي أو تخطيط سياسي، وكلّ شخص كان يفكّر بطريقته الخاصّة، ونقرأ من هنا وهناك،
وفي الختام نقوم بعملية انتخاب كي نخرج بحصيلة قريبة من الواقع، إلا أن الأمر لا يكون دائماً وفق الطلب، وقد رأينا أن بعضهم شطّ وابتعد عن الواقع (ص 98).
حاول الكتاب أن يقدّم صورةً جميلةً عن رجل دخل السياسة من بوابة الأحلام الوردية، ولكنّه (الكتاب) أيضاً حوى بعض هذه التناقضات التي لا تجعل الشهادة متناغمةً ومكتملةً، إذ ورد فيها بعض التعابير التي لا يمكن أن تمرّ على رجل عاش حياته قومياً ووطنياً ينظر للوطن كلّه، من شرقه إلى غربه ومن شماله إلى جنوبه، بيته الكبير والواحد، وهو ما غرسته فيه تربيته القومية باكراً.
ومن ذلك قوله عن اليمنيين في الشمال عموماً إنهم حينما "ذهبوا إلى الشمال، وجدوا ناساً هناك لا يؤمنون بالوحدة ولا يقبلون الآخر على الإطلاق" (ص 181)، وهذا حكم لا يمكن أن يمرّ على رجل عارك السياسة والنضال فيعمم على اليمنيين كلّهم شمالاً قولاً كهذا مطلقاً،
فضلاً عن قوله إن تقديراته لنضج شروط الوحدة في الشمال كانت تأتيهم من الرفاق في الحزب المنحدرين من الشمال، وإن تقديراتهم كانت مغلوطةً وتخديريةً، وهذا قولٌ لا يمكن أن يصدُر من زعيم صاحب تجربة وطنية أممية في النضال.
ومع ذلك، يبقى البيض ربّما من أصدق السياسيين الذين مرّوا في تاريخ اليمن المعاصر، بأخطائه (وما أكثرها) واجتهاداته كلّها، ورغم الخاتمة التي وجد نفسه فيها منفياً خارج الوطن والسياسة، لكنّه بقى راضياً عمّا قدّم بقوله في خاتمة هذه الشهادة: "لست نادماً على شيء، وكلّ ما قمت به كان عن وعي وقناعة، لذا أشعر بالسعادة والاعتزاز على المستوى الذاتي،
وفي رأيي، أن الإنسان موقف ودور، ومن طرفي، كان لدي على الدوام شعور بأني صاحب رسالة، وقد بقيت وفياً ومخلصاً لها، وإن كنت واجهت عقبات في فترة ما، فإن حظها من الحياة يبقى قائماً وستأتي الشروط التي تعيد إحيائها من جديد، وأما الندم فلم يعرف طريقاً إلى نفسي لأني مسكون بحب وطني وبلادي" (ص 202).
نبيل البكيري
كاتب وباحث يمني