
مجاعة غزة والقرار العربي
تطالعنا عشرات الصور يومياً عن المجاعة الحاصلة في قطاع غزّة. أطفال ونساء وشيوخ يتوسّلون للحصول على كسرة خبز أو قليل من الطحين لإسكات الجوع. كثيرون من أهالي القطاع لجأوا إلى الماء والملح لمنع تعفّن الأمعاء من قلة الطعام،
وآخرون حاولوا أكل ما تيسّر من أعشاب ليست مخصّصة للاستهلاك البشري. هذه الصور والمشاهد تلفّ العالم، وتستدعي يومياً وقفات احتجاج وحملات تضامن واسعة.
ورغم أهمية هذه الوقفات والحملات، وما يمكن أن تحمله من تأثير على الحكومات الغربية، إلا أنها لا تزال عاجزة عن إدخال شاحنة مساعدات واحدة إلى القطاع المنكوب.
المفارقة المؤلمة أن مئات الشحنات المزوّدة بالغذاء والدواء، وكثير من المستلزمات الحياتية التي يٌحرم منها سكان غزّة، تتكدس على بعد أمتار قليلة من القطاع، حتى إن "أونروا" أكدت أن الشحنات الموجودة تكفي سكان قطاع غزّة ثلاثة أشهر،
لكن هذا التصريح لا يمكن صرفه عملياً في غياب قرار من المسؤولين عن معبر رفح لكسر الحصار ومواجهة التعنّت الإسرائيلي في فرض الشروط على توزيع المساعدات.
يمكن وضع سيناريو افتراضي لكسر هذا الحصار. لنتخيّل أن القاهرة، وفي ظل ما نشاهده يومياً من معاناة غذائية في القطاع، اتخذت قراراً عاجلاً بفتح معبر رفح وإدخال عشرات الشاحنات التي ترفع العلم المصري.
كيف يمكن أن يكون رد الفعل الإسرائيلي؟ هل ستعتدي دولة الاحتلال على الشاحنات، وتخاطر بالدخول في مواجهة مع مصر؟
من المستبعد أن يكون رد الفعل الإسرائيلي هكذا، فمثل هذا القرار المصري، المسنود بقرار سابق من القمة العربية، سيكون محلّ ترحيب وتهليل عالمي، ليس على المستوى الشعبي فقط، بل على المستوى الرسمي في ظل تبدّل المواقف الغربية بعد تفاقم المجازر الإسرائيلية.
مثل هذا القرار سيعيد إلى القاهرة دورها الريادي العربي، خصوصاً في ما يتعلق بالقضية الفلسطينية، وسيعزّز حضورها على المستوى العالني، باعتبارها عاملاً فاعلاً في الأزمات الإقليمية. لكن هذا القرار لم يصدر بعد،
رغم أن كل الظروف جاهزة لصدوره، سواء على المستوى الإنساني في القطاع، الذي باتت أصداؤه تتردّد في أرجاء العالم، أو على المستوى السياسي الدولي مع تصاعد الانتقادات لإسرائيل والدفع بقوة إلى إنهاء عدوانها على قطاع غزّة.
ليست المشكلة في غياب مثل هذا القرار فقط، فالأنكى أن أي مظهر من مظاهر الدعم الاستعراضية لم يخرج من أي دولة عربية أو غربية، فخلال الأشهر الأولى من العدوان على قطاع غزّة، ومع شحّ المواد الغذائية،
عمدت بعض الدول إلى إسقاط معونات غذائية جواً على القطاع. ورغم أن هذه الإنزالات لم تسد الرمق، وقتلت بعض الساعين إلى محاربة الجوع، إلا أنها على الأقل كانت محاولة للقيام بشيء ما لمساعدة سكان القطاع على تحمّل المعاناة التي يعيشون فيها.
تفاقمت اليوم هذه المعاناة إلى النحو الذي نراه يومياً على الشاشات العالمية. ومع ذلك، لم تلجأ أي من الدول إلى تكرار "إنزالاتها" التي بالتأكيد يحتاجها سكّان القطاع اليوم أكثر من أي وقت مضى.
هي أزمة قرار أيضاً في مواجهة التعنّت الإسرائيلي، فالإسقاطات السابقة ما كانت لتتم من دون التنسيق مع الجانب الإسرائيلي، الذي يبدو أنه اليوم رافضٌ تكرارَ مثل هذه العمليات. ...
قد يكون من المفهوم ألا ترغب دول كثيرة محيطة بإسرائيل أن تخاطر بمواجهة دولة الاحتلال، التي باتت تعيش غطرسة قوة ممتدّة من إيران إلى اليمن وسورية ولبنان،
لكن من غير المفهوم التضييق على المتضامنين مع الجائعين في قطاع غزّة، وحتى اعتقال بعضهم، ومنهم داخل فلسطين نفسها.
لم يعد مطلوباً من هذه الدول اتخاذ قرار لمواجهة، لكن المطلوب على الأقل عدم تجاهلها وكأنها غير حاصلة.
حسام كنفاني
صحافي لبناني