
مفاوضات التهدئة… خرائط وهمية للانسحاب وتصعيد خطير للمجازر
تكشف خطط الاحتلال الجديدة أن حكومة اليمين الإسرائيلية، تناور في ملف التهدئة وإبرام صفقة تبادل أسرى، لتهدئة الضغط الداخلي الذي تواجهه، وتخفيف حدة الانتقادات الدولية، وأن حديثها عن وجود تقدم في المفاوضات غير المباشرة مع حركة حماس في الدوحة، عبارة عن أكاذيب، تبتت بالأدلة الدامغة على الأرض، والتي كشفتها خطط بقاء احتلال غزة، من خلال الموافقة على خطط تهدئة قصيرة مرتبطة بصفقات تبادل أسرى فقط، بدون الذهاب للحل الدائم.
تصعيد على وقع التفاوض
وفي الوقت الذي كان فيه وسطاء التهدئة المصريون والقطريون، يكثفون من اتصالاتهم ولقاءاتهم مع الوفد الإسرائيلي في القاهرة والدوحة، بهدف تقليل نقاط الخلاف وحصرها والتوصل إلى حلول تقريبية لها،
كانت قوات الاحتلال تمعن في قتل الفلسطينيين في غزة، وتواصل المجازر الدامية وتوسع نطاق العمليات البرية، وتشدد قيود الحصار.
فعلى مدار الأيام الماضية التي بدأت مطلع الأسبوع الماضي، حين استأنفت من جديد جولة التفاوض، كانت حكومة الاحتلال ترسل كعادتها إشارات من الميدان، تفيد باستمرارها في لغة فرض الاملاءات عبر المجازر الدامية، بهدف الدفع نحو تنفيذ شروطها في صفقة التبادل.
فلم يخل يوم من دون أن تقترف فيه قوات الاحتلال مجازر، تركزت في غالبيتها على مدينتي غزة وخان يونس، فيما طال نصيب منها مناطق وسط القطاع.
فاستهدف الطيران الحربي بعنف الكثير من المنازل في مدينة غزة، وتحديدا في مناطق السكن والنزوح، كما اقترف مجازر دموية أخرى طالت الأسواق الشعبية والمناطق القريبة من مناطق التوغل شرق المدينة،
فدمرت خلالها المنازل فوق رؤوس ساكنيها، وقتلت من فيها كما فعلت في عائلة عرفات في حي التفاح،
وذلك لدفع السكان الآخرين للنزوح القسري في مناطق ضيقة لا يوجد فيها موطئ قدم، خاصة وأن آخر إحصائية دولية أشارت إلى أنه لم يتبق في غزة سوى 15 في المئة من المساحة الإجمالية متاحة للسكن، بعد أن أصدر الاحتلال في خضم المفاوضات الجارية في الدوحة الأسبوع الماضي أوامر إخلاء طالت العديد من بلدات شمال غزة والأطراف الشرقية لمدينة غزة ذاتها.
ويفيد مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية «أوتشا» بأن الجيش الإسرائيلي، يواصل إصدار أوامر نزوح ويطلب من الفلسطينيين الانتقال إلى منطقة مواصي خان يونس المكتظة للغاية وتفتقر إلى الضروريات الأساسية للبقاء على قيد الحياة، وقال إن أوامر النزوح الصادرة قبل أيام، تشمل تسع كيلومترات مربعة، وتضم 11 حيا في جميع أنحاء محافظتي غزة وشمالها، حيث يُقدر أن 120 ألف شخص على الأقل يقيمون هناك.
ولم يكن الأمر مغايرا في جنوب وادي غزة، فعلى مدار الأيام الماضية تصاعدت حدة الهجمات على وسط القطاع، فاستهدف الطيران الحربي العديد من المنازل وخيام الإيواء، وفي مجازر أخرى خطيرة طالت تجمع المواطنين ومنها بيوت العزاء، فيما كانت تواصل منع أي معلم للحياة قرب نقاط انتشارها شرق وشمال وسط القطاع.
أما في مدينة خان يونس، التي يقطن عدد كبير من النازحين مناطقها الغربية «المواصي»، فكان الأمر أكثر فظاعة، فلم يكد يمر يوم إلا وقصفت فيه قوات الاحتلال ليس مناطق التوغل البري فحسب، بل مناطق النزوح، لتقتل العوائل بما فيها من أطفال داخل خيامهم، وتزيد من ذلك بقتل المجوعين منهم الذين يضطرون قسرا للذهاب إلى مراكز توزيع المساعدات الإنسانية في مدينة رفح المجاورة،
وسجل أمر خطير الأسبوع الماضي بمقتل 15 شابا خنقا، بسبب وضعهم في منطقة ضيقة جدا حددها جيش الاحتلال لسلوكهم الطريق المؤدي لمركز التوزيع، وليطلق النار على من نجا منهم ويوقع في صفوفهم قتلى ومصابين.
توسيع التوغل والقتل
كل ذلك ترافق مع استمرار العملية البرية ضد المناطق الواقعة شرق ووسط وجنوب وشمال المدينة، إذ واصلت قوات الاحتلال عمليات التدمير الممنهج للمباني في تلك المناطق كما باقي مناطق التوغل البري، ضمن خطط لجعل قطاع غزة غير صالح للسكن، ودفع السكان للهجرة القسرية لاحقا.
وبما يدلل على تصاعد عمليات القتل الممنهج لسكان غزة، قال سام روز مدير شؤون وكالة غوث وتشغيل اللاجئين «الأونروا» في تصريح صحافي «في كل يوم منذ بداية الحرب في غزة، يُقتل في المتوسط ما يعادل صفًا دراسيا كاملا من الأطفال»، وأكد أنه لا يوجد شيء يبرر قتل الأطفال أينما كانوا، وشدد على وجوب أن يجري التوصل إلى وقف لإطلاق النار الآن.
كما تحدثت الأمم المتحدة عن قتل المجوعين وزيادة أعداد المرضى المصابين بسوء التغذية جراء تشديد الحصار الإسرائيلي ومنع سلطات الاحتلال وصول كميات وافقة من المواد التموينية للسكان،
وقد استمر هذا الأمر رغم ما أشيع عن اتفاق بين إسرائيل والاتحاد الأوروبي على زيادة كميات المساعدات.
وفي إحصائية أعلنها مكتب الأمم المتحدة لحقوق الإنسان، بينت أنه حتى منتصف الأسبوع الماضي قتل 875 شخصا في غزة، بالقرب من مواقع «مؤسسة غزة الإنسانية»، أثناء محاولتهم الحصول على الغذاء، فيما قتل بقية الضحايا وعددهم 201، أثناء بحثهم عن الغذاء «على طرق قوافل الإغاثة أو بالقرب منها» التي تديرها الأمم المتحدة أو شركاؤها الذين ما زالوا يعملون في القطاع، ولذلك وصف المفوض العام لوكالة «الأونروا» فليب لازريني وهو يتحدث عن تلك المراكز بأنها تمثل «مصيدة للموت، يُجبر الناس على الاختيار بين التجويع أو أن يُقتلوا أثناء محاولتهم الحصول على الغذاء»، كما تطرق إلى حالات الجوع في غزة، وقال إن طفلا من كل عشرة أطفال يتم فحصهم في المرافق الطبية التابعة لـ«الأونروا» يتبين انه يعاني من سوء التغذية، لافتا إلى أن معدلات سوء التغذية ارتفعت بين الأطفال في غزة وسط نقص حاد في المستلزمات الغذائية، وأشار إلى طفلة تبلع من العمر 7 أشهر، توفيت قبل أيام بسبب سوء التغذية.
و»الأونروا» كباقي المنظمات الاغاثية الدولية تؤكد أن لديها الكثير من المساعدات التي تحتاج إذن دخول من السلطات الإسرائيلية لإيصالها إلى قطاع غزة، بدون أن تحصل على ذلك.
وتحل كل هذه الأزمات على سكان غزة، في وقت تشتد فيه أزمة الوقود، حيث تواصل سلطات الاحتلال منع دخول إمدادات محدودة من الوقود، ما يهدد بتوقف الخدمات الأساسية ومنها المشافي ومحطات المياه.
استمرار الاحتلال والتدمير
صوحب ذلك مع الكشف عن مخطط إسرائيلي خطير، يهدف إلى استمرار احتلال غزة، ويثبت أن إسرائيل تناور في ملف التهدئة والمفاوضات التي أجريت من أجل ذلك، كان بإعلان جيش الاحتلال عن إقامة محور جديد جنوب قطاع غزة، أسماه «محور ماغين عوز»، يفصل المناطق الشرقية لمدينة خان يونس عن المناطق الغربية، ويضاف إلى المحاور الأخرى في القطاع التي تثبت الاحتلال، وهي «فيلادلفيا وموراج ونتساريم»، حيث يمتد المحور الجديد على طول 15 كم.
وذكر جيش الاحتلال أن قوات «اللواء 188»و «لواء جولاني»، استكملت فتح «محور ماغين عوز» الذي قال إنه «يُشكّل جزءًا مركزيًا في الضغط على حماس الإرهابية وحسم المعركة ضد لواء خان يونس الحمساوي»، وليعلن أن قيادة المنطقة الجنوبية تواصل «توسيع وتعزيز السيطرة على هذا المحور المركزي والعمل على حماية أمن مواطني دولة إسرائيل، وسكان غلاف غزة بشكل خاص».
ويهدف المحور الجديد إلى تحويل شرق خانيونس إلى منطقة محتلة على غرار رفح، حيث تقع عدة بلدات شرق المحور وهي عبسان الكبيرة وعبسان الجديدة وبني سهيلا وخزاعة والقرارة والفخاري وجورة اللوت.
وترافق ذلك مع مزاعم إسرائيلية عن تقديم خريطة انسحابات جديدة من غزة، تشمل انهاء السيطرة على «محور موراج»، لكن مع إبقاء احتلالها لمدينة رفح، إذ ذكرت تقارير عبرية وهي تروج لوجود تقدم، أن إسرائيل تخلت عمليا عن بقاء قواتها في «محور موراج»، لكن الخريطة الجديدة تحدد بقاء قوات الاحتلال على عمق 1.2 كيلومتر شمال «محور فيلادلفيا»، وعلى عمق 1.1 كيلومتر في شمال وشرق قطاع غزة.
وهذا يعني أن إسرائيل التي إن وافقت على الانسحاب من «محور موراج» الفاصل بين خان يونس ورفح، فإنها لن تنسحب من مدينة رفح، وستبقي على احتلال المدينة، وبقاء مراكز توزيع المساعدات التي تديرها الشركة الأمريكية، ما يعني أن تخليها عن «محور موراج» كان شكليا.
وفي ذات الوقت الذي أعلن فيه جيش الاحتلال عن انتهاء إقامة المحور، وكشف فيه عن خريطة الانسحاب الجديدة، ذكرت صحيفة «هآرتس» الإسرائيلية، عن حجم دمار كبير طال قطاع غزة، أكبر مما كان يعتقد سابقا، وذكرت أن تدمير المباني في القطاع أصبح يتم بواسطة مقاولين إسرائيليين خاصين يعملون تحت إشراف الوحدات القتالية بجيش الاحتلال الإسرائيلي، وأن هؤلاء المقاولين يحصلون على ألف وخمسمئة دولار أمريكي مقابل كل مبنى يجري تدميره.
وذكرت أنه بناء على تحليل صور الأقمار الاصطناعية وخبراء إن ما لا يقل عن 70 في المئة من المباني في غزة أصبحت غير صالحة للسكن، وأن 89 في المئة من المباني في رفح دمرت منذ بداية الحرب، إلى جانب 84 في المئة من المباني في شمال القطاع، فيما جرى تدمير 78 في المئة من المباني في مدينة غزة قد بشكل كلي أو جزئي، وكشفت الصحيفة أن المقاولين الإسرائيليين يضغطون على القادة الميدانيين بالجيش الإسرائيلي لتوسيع مناطق التدمير في القطاع الفلسطيني.
وليؤكد ذلك كله أنه على خلاف ما يشاع إسرائيليا، عن وجود تقدم في مفاوضات التهدئة «غير المباشرة» بين حركة حماس، فإن الأمور لا تزال على حالها، بسبب تعنت إسرائيل حتى اللحظة في ملف الانسحاب من مناطق قطاع غزة، واستمرارها في اشتراط الإبقاء على عدة محاور احتلال، ولذلك قال القيادي في حماس وعضو وفدها المفاوض الدكتور باسم نعيم، معقبا على أفعال الاحتلال «قطاع غزة كله تحت سيطرة جيش الاحتلال عسكريا، وبالتالي فتح محور جديد لا يعني كثيرا من الناحية الميدانية العملية، ولكنه يوكد على نوايا ومخططات الاحتلال طويلة الأمد بالبقاء داخل القطاع وعدم الانسحاب وعدم إنهاء الحرب».
موقف المقاومة
وأشار إلى أن فتح المحور يكذب ما يدعيه الاحتلال على طاولة المفاوضات أو يبلغه للوسطاء، وأشار في تدوينة على «فيسبوك»، إلى أن الاحتلال منخرط في العملية التفاوضية «نظريا»، من أجل الصورة للداخل الإسرائيلي، وتخفيف الضغط الدولي.
وأكد نعيم أيضا أن الاحتلال لم يسلم خرائط جديدة منذ أسبوع، كما يعلن في الإعلام، وقال وهو يشير إلى نوايا إسرائيل القادمة «الرد العملي جاء اليوم بفتح محور جديد يقسم خان يونس الى نصفين».
هذا ونقلت مواقع مقربة من حركة حماس، عن مصدر في المقاومة، قوله إن ️الاحتلال «يمارس حملة تضليل وكذب وخداع بشأن التقدم بالمفاوضات ويرفض الانسحاب وإدخال المساعدات ووقف العدوان»، المصدر ذاته أكد أن المقاومة لم تتسلم الخرائط الجديدة للانسحاب، وأن المفاوضات تراوح مكانها منذ مساء الأربعاء من الأسبوع الماضي، وأشار إلى تمسك المقاومة بضرورة إدخال المواد الغذائية والمساعدات بحرية وكرامة، عبر المؤسسات الأممية وليس عبر الآليات الإسرائيلية التي وصفها بـ «الدموية».
وأوضح أن ️المقاومة تتواصل مع الوسطاء، وتبدي جدية مع كل الجهود للوصول لوقف إطلاق النار وإنهاء «حرب الإبادة على شعبنا».
وجاء الكشف فلسطينيا عن استمرار الجمود في المفاوضات، ردا على تقارير إسرائيلية أشارت إلى وجود «تقدم دراماتيكي» في مفاوضات الدوحة، ونقلت «القناة 13» عن مسؤول إسرائيلي قوله إن «الطريق للصفقة بات ممهدا»، فيما نقلت هيئة البث الإسرائيلية الرسمية عن مصادر مطلعة قولها إنه تم تقليص الفجوات، وزعمت أن الفرق الفنية في الدوحة تعمل على «تعديل الخرائط» التي ستبقى فيها قوات الاحتلال أثناء وقف إطلاق النار، بحيث تشمل تنازلًا إضافيًا في منطقة «محور موراج»، ولكنها ستشمل مع ذلك وجودًا عسكريًا في منطقة رفح.
تهديد بالتصعيد
وبما يدلل على ذلك فقد كشف النقاب أيضا أن جيش الاحتلال قدم في اجتماع المجلس الوزاري المصغر الذي عقد مساء الثلاثاء، لرئيس الوزراء نتنياهو والوزراء خطةً أسرع وأقل تكلفةً لإنشاء «مدينة إنسانية» في رفح، وحسب تقارير عبرية تشمل الخطة إنشاء خيام أساسية نسبيًا، وتوفير الطعام، والكهرباء، والمياه. سيستغرق إنشاء المدينة بضعة أشهر (ما بين شهرين وأربعة أشهر)، وهو ما يكشف خطط الاحتلال لتنفيذ مخطط التهجير القسري لاحقا.
ومن أجل تمرير الخطة الجديدة، وتمرير خريطة الانسحاب من غزة، هددت إسرائيل بتوسيع حرب الإبادة ضد غزة، في حال لم يتم التوصل إلى صفقة، وبشكل صريح قال رئيس الأركان الإسرائيلي إيال زامير إنه أصدر تعليماته للقيادة الجنوبية «بتكثيف القتال في حال عدم التوصل إلى صفقة تبادل»، وأضاف «نسيطر بالفعل على 75 في المئة من قطاع غزة وفي الأيام المقبلة سنعرف ما إذا كان هناك أي اتفاق أم لا».