واشنطن واليمن حرب بلا ملامح
في ظل التدخلات الأمريكية المتكررة في مناطق النزاع كثيرًا ما تُرفع شعارات مثل الديمقراطية ومحاربة الشر والحفاظ على الأمن القومي لتبرير الحضور العسكري وتغليف الضربات الجوية بغلاف أخلاقي.
بينما الواقع يكشف عن استهداف ممنهج للبنى التحتية وسقوط متكرر للمدنيين في الدول الضعيفة أو المنهكة كما هو الحال في اليمن الذي لا يشكل استثناء بل يعكس بصورة فاضحة التناقض بين الشعارات المعلنة والممارسات الفعلية على الأرض.
حيث تتعرض مناطق مدنية لقصف مباشر تحت ذريعة استهداف جماعة الحوثي من دون وجود استراتيجية واضحة أو شفافية تضمن الحد الأدنى من المساءلة.
إن هذه الممارسات تفتح باب التساؤل عن مدى فاعلية القوة العسكرية كأداة لتحقيق الأهداف الأمريكية؟ وهل لا تزال الضربات الجوية تجسد مفهوم التفوق الاستراتيجي؟
أم أنها أصبحت عبئًا سياسيًا وأخلاقيًا على صورة الولايات المتحدة في الخارج؟
خصوصًا عندما يتحول مقتل المدنيين إلى مجرد نتيجة جانبية يمكن التغاضي عنها مقابل خسارة طائرة أو جندي أمريكي..
الأمر الذي يفقد الخطاب الأمريكي أي قيمة إنسانية ويكشف عن منطق حسابي بارد يتعامل مع الأرواح بمنظور توازني لا أخلاقي ويجرد السياسة من بعدها القيمي الذي طالما تباهت به واشنطن أمام العالم.
وفي السياق ذاته لا يمكن اعتبار المزاعم المتعلقة بحماية الملاحة الدولية مبررًا كافيًا لاستمرار هذه الضربات إذ أن هذا النوع من الخطاب طالما استخدم كغطاء لتبرير التدخلات الخارجية وتحويلها إلى أفعال وقائية.
بينما يُسهم فعليًا في تعقيد النزاعات وتعميق الانقسامات وتجريد الفاعلين المحليين من سياقاتهم السياسية والاجتماعية وتحويلهم إلى أدوات في لعبة إقليمية ودولية لا تراعي خصوصيات المجتمعات المحلية ولا تحترم سيادة الدول ولا تلتزم بمسؤولية قانونية أو أخلاقية تجاه الضحايا..
أما الأخطر فهو أن تجد بعض الأطراف اليمنية نفسها في حالة من الانقسام السياسي تُرحب أو تتغاضى عن هذه الضربات إذا استهدفت خصومها ..
لكن هذا القبول لا يعكس إرادة وطنية جامعة بل يعبر عن هشاشة البنية السياسية والاجتماعية ويؤسس لاعتماد خطير على الخارج في تسوية الخلافات الداخلية ما يؤدي إلى إضعاف فكرة الدولة الجامعة وتحويل اليمن إلى ساحة مفتوحة لصراعات الآخرين بدلًا من أن يكون مشروعًا وطنيًا لكل أبنائه يُبنى بالحوار والتوافق لا بالحسم العسكري والاستقواء بالتدخلات الأجنبية...
وفي هذا السياق فإن مسؤولية جماعة الحوثيين تفرض عليهم تجاوز منطق السلاح والانخراط الجاد في مسار سياسي شامل يعترف بالآخر ويقبل بالتعددية الوطنية ويقدم تنازلات تاريخية من أجل مستقبل اليمن .
فالإقصاء لا يصنع دولة والرفض لا يُنتج استقرارًا والدولة الحقيقية لا تُبنى على أنقاض الخصوم ؟
بل على شراكة وطنية تضمن لكل طرف مكانه ودوره في صياغة مستقبل البلاد بما يضمن وقف الحرب وتجنيب اليمن مزيدًا من الانهيار والتمزق ويؤسس لمسار جديد يُبنى على التفاهم لا على الهيمنة أو الغلبة..
وأمام هذا المشهد المعقد تبقى أمام الولايات المتحدة فرصة لتحويل تدخلها من مسار عسكري عقيم إلى دور دبلوماسي فاعل يدعم جهود السلام ويعيد بناء مصداقيتها السياسية في الإقليم عبر دعم الوساطات وتشجيع الحوار والانخراط في مسارات التسوية بدلًا من الاستمرار في منطق القوة الذي أثبت فشله مرارًا إن اليمن لا ينبغي أن يُختزل إلى مجرد ساحة جيوسياسية..
بل يجب أن يُنظر إليه كاختبار حقيقي لقدرة واشنطن على التحول من منطق الهيمنة إلى منطق الشراكة ومن سياسة فرض الأمر الواقع إلى سياسة دعم السلام العادل والمستدام الذي يصنع فرقًا في حياة الشعوب ويمتد أثره في ذاكرة التاريخ...
* سفير بوزارة الخارجية