في رثاء الذات اليمنية
لا صنعاء صنعاء، ولا تعز تعز، ولا عدن عدن. تلك المدن التي كانت تحمل في طياتها رموز الهوية اليمنية العريقة، انحنت تحت وطأة الانقلاب الحوثي الغاشم، وأصبحت شواهد على ما لا يمكن وصفه إلا بالنكسة الوطنية الشاملة. نحن اليوم نشهد انكساراً جماعياً لا يمس فقط حدود المدن والجغرافيا، بل يمتد إلى عمق الروح اليمنية، إلى تلك الذات التي كانت تعتد بتاريخها وثقافتها وحضارتها.
كان اليمن يوماً ما مملكة الحضارات، وملتقى التجارة والثقافة، حيث تلتقي الجبال بالسهول، والمدن بالبحار، في وحدة متكاملة من التنوع والتآلف. اليوم، تلك الوحدة تحولت إلى شتات، والانقسام إلى ندوب دامية على جسد وطن كنا نحلم بإصلاحه، لكنه انكسر على أيدي انقلابٍ حوثي أرعن، لا يعرف إلا لغة السلاح.
صنعاء التي كانت يوما منارة، تئن اليوم تحت نير المليشيات، تعز التي عرفت دائما بأنها معقل النضال والثقافة، باتت اليوم مدينة محاصرة، ومقاومة تصارع من أجل البقاء. وعدن، التي كانت يوما بوابة اليمن المفتوحة على العالم، تحولت إلى ميدان للصراع. هذه المدن لم تعد تعرف نفسها، ولم نعد نحن نعرفها كما كانت، وكأن الهوية اليمنية باتت شيئا غريباً عن كل ما عرفناه.
الانقلاب الحوثي لم يقم فقط بتمزيق النسيج السياسي والاجتماعي للبلاد، بل ضرب أساسات الحلم اليمني. الحلم الذي كانت تحمله تلك المدن، حلم الوحدة والتقدم، بات اليوم سراباً. لقد شوهت المليشيات كل ما كان جميلاً في اليمن، حتى القيم والتقاليد التي كانت تتوحد حولها القلوب تمزقت وتبعثرت.
نحن نعيش انكساراً أعمق من حدود السياسة أو السلطة، نعيش انهياراً للذات اليمنية التي لطالما كانت مصدر قوة وعزة. الحلم الوطني بات منكفئا على ذاته، محاصراً بين رغبة في المقاومة وألم واقع لا يرحم. كل يمني اليوم يحمل في داخله جرحاً غائراً، جرح الحنين إلى ماضٍ كنا فيه موحدين، وكانت مدننا رموزا نحبها بعمق، ونسعى لحمايتها بكل ما أوتينا من قوة.
لكن الآن، تلك المدن لم تعد كما كانت. صنعاء هي مدينة تحاصرها البنادق الموجهة ضد أبنائها، تعز تنزف مقاومة، وعدن تبحث عن هويتها في بحر من الصراعات. كل مدينة ما تحت الاحتلال، هي جرح مفتوح ينزف بلا توقف، وكل يمني يشعر بأن الهوية الوطنية نفسها في خطر.
إن ما نعيشه اليوم ليس مجرد صراع على السلطة، بل هو صراع على الهوية، على الذات اليمنية التي بدأت تذوب تحت تأثير الدمار والانقسام. ما يجمعنا اليوم، بدلاً من الفخر بتراثنا وتاريخنا المشترك، هو الحزن العميق الذي يجثم على قلوبنا بسبب ما آلت إليه أحوالنا.
لا وطن يُبنى على جماجم الأبرياء، ولا سلام يولد من فوهات البنادق ذات "الولاية".. نحن نعيش في زمن ضاعت فيه المبادئ، وانكفأت فيه الأحلام. كل يوم يمضي، نخسر جزءا من تاريخنا، من ثقافتنا، ومن أنفسنا. اليمن اليوم في حاجة ماسة لاستعادة ذاته، لاستعادة ذلك النسيج الاجتماعي والثقافي الذي كان يوما ما يجعلنا نفخر بأننا يمنيون.
في النهاية، ما نحتاج إليه ليس مجرد نهاية للصراع العسكري، بل نحتاج إلى بعث جديد للذات اليمنية، تلك الذات التي تشوهت وتعرضت للإذلال. نحتاج إلى إعادة بناء اليمن على أسس من العدل، والمساواة، والكرامة، حتى تعود صنعاء إلى صنعائها، وتعز إلى تعزها، وعدن إلى عدنها. فقط لن يتحقق ذلك إلا بعد دحر الانقلاب الحوثي.