
موتٌ مؤجَّلٌ في غزّة
كان من الممكن أن يموتوا في اليوم الأول، أو في المحاولة الأولى، لكن الموت كان له رأيٌّ آخر. أراد أن يلهو بهم قليلاً قبل أن يُعلن انتصاره، ويقف مزهوّاً وهو يحمل منجله الذي يحصد الرؤوس المغلوبة على أمرها.
ولأنّه يعرف أنّ الكلمة الأخيرة له يُصفّق بكفَّيه المغموستَين بالدم طويلاً، ويضحك منتشياً من محاولات هؤلاء البؤساء النجاة، ويُخبر العالم في رسالةٍ خفيّةٍ أنّ لا شيء يمنعه من أداء مهمته، وأنّ شهوة القتل لديه لا تتوقّف.
في أحد أكثر أحياء مدينة غزّة الحديثة هدوءاً ورقيّاً، تل الهوى، قضت معلّمة شابّة حسناء آخر ما تبقّى من لحظات حياتها في مراوغة مع الموت.
وقال مراقبون لمحاولات نجاتها إنّ قصّتها تُشبه كثيراً قصّة الطفلة هند رجب، التي قضت نحبها بعد محاولاتٍ لإنقاذها مطلع عام 2024، والتي استلهم فنّانون ورسّامون قصّتها، ووثّقوا ما تعرّضت له من قتل بدمٍ بارد مع سبق الإصرار والترصّد.
لكنّ حكاية هذه الطفلة لم تكن لتُسدِل الستار على جرائم الاحتلال الذي يُصرّ ويتغطرس وكأن لا أحد غيره في العالم.
وهكذا قضت تلك المعلّمة، واسمُها غادة، تحت أنقاض بيتها في ذلك الحيّ الذي لم يبقَ حتى اسمه، وأصبح الهواء الذي يُغلّف أجواءه محمّلاً برائحة البارود والدم.
حاولت المعلّمة غادة (وقعت في الخطأ نفسه الذي يقع فيه كثيرون) أن تحصل على بعض المَتاع، بعد أن أجلتْ باقي أفراد عائلتها نحو منطقةٍ اعتقدت أنّها آمنة، وقرّرت العودة مع شقيقها على وجه السرعة لتجمع بعض الأمتعة من أجل الصغار.
لكنّ قذيفة صاروخية أصابت السيارة التي كانت تستقلّها مع شقيقها، فقتلته على الفور، بينما لجأت غادة إلى بقايا بيتها المدمَّر، وبدأت تُرسل رسائل استغاثة مدّة يومين بأنها أصبحت محاصرة.
وقد كشفت طائرات الاستطلاع بقايا حياة في مكانٍ سبق أن تعرّض للقصف، وظنّ القتلة أنّه لم يعد به أيُّ أثر للحياة.
ظلّت غادة رباح تُناشد العالم لكي ينقذها من تحت أنقاض بيتها الذي احتمت به. وبعد محاولات حثيثة من رجال الإنقاذ التابعين للدفاع المدني،
وبعد أن سمح الاحتلال لهم بالاقتراب من المنطقة التي حُدّدت بصعوبة لبقايا البيت، اكتشفوا أنّ البيت قد سُوِّي بالأرض تماماً، ولم يعد هناك بقايا تختبئ بينها معلّمةٌ كانت تطلب النجدة.
وقد أدرك العالم أجمع في تلك اللحظة، وهو يتابع محاولات إنقاذها، أنّهم قد وقعوا جميعاً تحت طائلة الخديعة من الاحتلال، الذي قصف البيت للمرّة الثانية كي لا تنتصر الحياة على قراره الممهور بتوقيع آلة الموت.
هكذا سكت صوت المعلّمة غادة، مثلما سكت صوت الطفلة هند،
وهكذا يسكت صوت من يمنحهم الموت فرصةً قصيرةً للحياة، ومن يكونون على موعدٍ مؤجَّل معه، إذ يقف ساخراً بالقُربٍ منهم،
ويرى محاولاتهم للنجاة وهم يختبئون ويهربون ويركضون، في محاولات يائسة وبائسة للبقاء على بُعد خطواتٍ من موتٍ قادمٍ لا محالة.
تتقطّع في غزّة سُبل الحياة وتتشابك طرق الموت اللئيمة. وبينما يحاول كثيرون بدافع الغريزة النجاة، ويحاول كثيرون أيضاً إنقاذ ما يمكن إنقاذه من أحبّةٍ عالقين تحت الأنقاض أو متاعٍٍ قليل تُرك عالقاً، يكون الموت لهم بالمرصاد.
ولذلك، لا عجب أن نرى في أماكنَ سُوّيت بالأرض تماماً وأصبحت أثراً بعد عين، حتى فقدت معالمها، فلم يعد قاطنوها قادرين على التعرّف إليها، جثثاً متحلّلة وملقاة فرادى وقد نهشتها الكلاب الضالّة.
ولسنا بحاجة إلى ذكاء كي نعرف أنّ أصحاب هذه الجثث كان لديهم موعدٌ مؤجَّل مع الموت، وأنّهم حاولوا إنقاذ آخرين أو البحث عن متاعٍ قليل لبائسين ينتظرونهم في محطّةٍ ليست بعيدة من الموت المؤجَّل.
سما حسن
كاتبة وصحفية فلسطينية