
حيرة حضرموت... استقطابات حادة وخيارات محدودة
أمام محاولات شد وجذب، أو رغبات في النأي بنفسها عن الانقسامات التي يعانيها اليمن، تعيش محافظة حضرموت الاستراتيجية الغنية، الواقعة شرقي البلاد، "حيرة" سياسية هي الأخطر في تاريخها "التائه" أصلا، منذ ما قبل الإسلام وحتى اليوم، بين هويات سياسية واجتماعية متنوعة من حولها،
مع الداخل وفي الإقليم وعلى مستوى العالم الذي شهد بعض أصقاعه موجات هجرات كبيرة ومتتالية من أبناء حضرموت تركت آثارا مهمة على واقعها وفي مهاجرهم القريبة والبعيدة طوال قرون من الزمن.
لكن المفارقة الأغرب من ذلك أننا عند النظر إلى حضرموت من داخلها نجد أنها متفاوتة وكبيرة، وليست واحدة، وتكفي نظرة واحدة سريعة على موقعها في خارطة اليمن حتى نفهم لماذا تعيش حضرموت كل هذا "التنازع" عليها من قبل الجميع، فهي المحافظة الأوسع جغرافياً والأوفر من حيث الثروات الطبيعية والمعدنية، والأغنى ثقافياً بمدنها التراثية الفريدة وبمدارس جوامعها الجامعة لمختلف العلوم والآداب والفنون.
نتيجة للوضع الشائك القائم في اليمن، ولتجاربها السابقة "غير المريحة" مع النظام الاشتراكي السابق في عدن، تبدو حضرموت اليوم كمن يغرد خارج السرب، وفي مزاج آخر، دون حنين إلى الماضي رغم الاعتراف بمظلوميتها،
حيث وصفها الرئيس الجنوبي السابق، علي ناصر محمد، بأنها كانت "المحافظة الأكثر عطاء في دعم ميزانية الدولة، والأقل حظا في الاستفادة من ثرواتها"،
محذرا "من محاولات جرها إلى مربع الفوضى والانقسام، ما يفرض علينا جميعا مسؤولية التحرك العاقل والسريع لحماية أمنها واستقرارها".
كما تبدو حضرموت غير ميالة لإغراءات الانفصال والانضمام إلى مشروع "دولة جنوبية فيدرالية"، إذ قال فضل الجعدي القيادي في المجلس الانتقالي الجنوبي: "إن العلاقة بين حضرموت والجنوب علاقة وحدة مصير وهوية"،
مؤكدا أنه "لا جنوب بلا حضرموت، ولا حضرموت دون الجنوب" وكأن الجنوب قاب قوسين أو أدنى من إعلان الانفصال الذي لا يقبل الداخل اليمني ولا الإقليم أو القوى الرئيسة في المجتمع الدولي مناقشته اليوم قبل انتهاء الحرب مع جماعة الحوثيين المدعومة من قبل إيران.
الناطق الرسمي لما يسمى "حلف قبائل حضرموت"، الكعش سعيد السعيدي، رد على ذلك بقوله: "إن حضرموت اليوم تنتهج طريق الحكم الذاتي الذي يمثل نموذجا يُحتذى به في تحقيق الأمن والاستقرار والتنمية، ليس لحضرموت فحسب، بل لعموم مناطق الوطن".
وقال السعيدي: "من ينشد السلام والخير لليمن بكل مكوناته، عليه أن لا يعادي حضرموت ولا مشروعها الذاتي، لأن عكس ذلك لا يمكن تفسيره إلا بمحاولات للسيطرة والضم والإلحاق والتبعية" كما قال.
حديث الرجل جاء وكأن طريق "الحكم الذاتي" بات ممهدا ومفروشا بالورود، متناسيا المخاطر والخلافات القائمة داخل حضرموت وما حولها، وأن أمر حضرموت لن يصلح إلا بصلاح حال اليمن كله.
تعكس حيرة حضرموت أزمة بنيوية شاملة يعيشها اليمن لا تقبل القسمة على شمال وجنوب، ولا على أنصاف أو أرباع حلول جزئية في هذه المحافظة.
لكن مبعث كل هذه الأحاديث والأهواء المتضاربة يدل على منسوب عال من القلق والخوف لدى عموم اليمنيين في حضرموت وغيرها، دون استثناء، بما في ذلك جماعة الحوثيين في شمال غربي البلاد إزاء المصير الذي ينتظر اليمن في ظل انعدام أي مسار سياسي واضح لإنهاء الحرب التي طال أمدها،
وتعذر التوصل إلى اتفاق سلام ينهي معاناة البلاد والعباد، خصوصا في ضوء التعقيدات التي يشهدها العالم بعد مجيء إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترمب وما ترتب على الحرب الإسرائيلية في غزة ولبنان وسقوط نظام حكم آل الأسد في سوريا.
كيف نفهم المشهد السياسي أكثر؟
حذر رئيس الوزراء الجنوبي السابق والسفير الحالي لليمن لدى بريطانيا، ياسين سعيد نعمان، من خطورة هذا التنازع على حضرموت أو غيرها سواء من قبل ما يعرف بـ"المجلس الانتقالي الجنوبي" أو غيره،
حيث قال إن "كل من يتولى مؤسسة، أو يقف على رأس منطقة جغرافية، أو مكون سياسي وعسكري، أو يقود قوة عسكرية، أو يؤسس لمشروع سياسي، لن يكتب له النجاح في حماية ما يقع تحت يده، أو الدفاع عنه، إلا بالانخراط الكامل في منظومة الدولة، والعمل من خلال آليات هذه المنظومة دون التذرع بأي ذريعة مهما كانت وجاهتها".
خيارات حضرموت
الأول، أن تكون جزءا من يمن اتحادي واحد، تتمتع فيه سلطاتها بصلاحيات واسعة لإدارة شؤونها واستثمار مقدراتها، مع ضمان تمثيل عادل لها في كل مؤسسات الدولة الاتحادية، المدنية والعسكرية والأمنية وغيرها، وهذا هو الخيار الأمثل والأرجح لدى غالبية الحضارم خصوصا في منطقة الوادي والصحراء ذات الكتلة السكانية التقليدية المحافظة.
الثاني، أن تكون جزءا من جنوب فيدرالي منفصل عن الشمال، شريطة أن يكون لها بعد سنوات حق الاستفتاء على تقرير مصيرها في حال بدت هذه التجربة غير جاذبة لاستمرارها والسير فيها،
ويبدو هذا الخيار مستبعدا، بسبب مرارات خلفتها سنوات الحكم الاشتراكي السابق لجنوب البلاد.
ثالثا، أن تتحول حضرموت إلى دولة مستقلة بذاتها، خصوصا مع توفر مقومات الدولة لديها، من أرض مترامية، وشواطئ ممتدة، وثروات مختلفة هائلة،
لكن قلة عدد سكانها في الداخل تجعلها في حاجة إلى مظلة أمنية لا يمكن أن يوفرها سوى بقائها في كيان وطني أكبر قادر على تأمين حمايتها، خصوصا في ظل وجود بعض الأطماع والطموحات الإقليمية والمحلية نحوها.
غير أن الأخذ بأي من هذه الخيارات لا يمكن أن يتم إلا من خلال تقرير مصير اليمن كله باتفاق سياسي شامل لا يبدو متاحا في ظل استمرار الحرب الدائرة فيه الآن
أسباب حيرة حضرموت
خرج من بيوت حضرموت ساسة وعلماء دين وأدباء وشعراء وفنانون كبار، وقد تعرفت على مدى أربعين عاما إلى معظمهم من أعلى المستويات داخل الحكم وخارجه، إلى أوسطها ثم أدناها، وتكررت زياراتي لمختلف مناطقها، وذلك في محاولة لفهمها على نحو أعمق، حيث وجدت شبه اتفاق بين الجميع على أن "حضرموت تبحث عن دولة يمنية تضمن شراكة سياسية حقيقية، لكنها لم تجد هذه الدولة".
وعلى الرغم من كثرة المؤتمرات والندوات والملتقيات التي عقدتها نخب حضرموت، وخرجت منها برؤى وتصورات وقرارات تحدد خيارات هذه المحافظة، وترسم صورة المستقبل الذي تنشده لنفسها، فإن "الإجماع" لم يتم على شخصية محورية أو قيادات تتحلى بالكفاءة ومحدودة العدد تقود قاطرة التغيير فيها، وتحظى بالتفاف الناس من حولها.
السبب في ذلك لا يرجع إلى تدخلات في شؤونها، محلية أو خارجية، لكنه يعود إلى طبيعة حضرموت نفسها، وإلى أن أغلب الشخصيات الفاعلة والمؤثرة من أبنائها تعيش خارج البلاد
هجرات حضرموت
ربما شكلت هذه المسألة أحد أسباب عدم استقرار حضرموت على رأي واحد بشأن واقعها ومستقبلها.
وتختلف هجرات الحضارم عن غيرهم من اليمنيين، سواء من حيث تواريخها أو دوافعها ووجهاتها أو النتائج والآثار المترتبة عليها.
بدأت أولى هجرات الحضارم إلى جنوب شرق آسيا، وخصوصا إلى إندونيسيا وماليزيا، وكذلك إلى شرق أفريقيا حيث اشتهروا بمهاراتهم العالية في التجارة، لكن الأهم من هذا أنهم تمكنوا من تبليغ رسالة الإسلام لشعوب تلك الدول، وتمكنوا من الاندماج في مجتمعاتها لعقود طويلة من الزمن، ما جعلهم يحتلون مراتب رفيعة فيها، ويتولى بعضهم مناصب عليا في حكوماتها وبرلماناتها، وربما كان هذا سببا في انصراف بعضهم عن الاهتمام بشؤون وقضايا محافظتهم الأم حضرموت.
ثم جاء اكتشاف وإنتاج النفط في منطقة الجزيرة والخليج القريبة من اليمن، وهنا جاءت الموجة الثانية من هجرات الحضارم بأعداد كبيرة، مع عائلاتهم، حيث برعوا في التجارة أيضا، وفي الصرافة وشركات المقاولات خصوصا في فترة تأسيس البنى التحتية في دول الخليج، وهؤلاء آثروا الاستقرار فيها بخلاف غيرهم من اليمنيين،
وبالتالي تضاءل اهتمامهم في العودة إلى حضرموت، بل تزايد نزوحهم إلى خارجها، سيما خلال فترة حكم "الجبهة القومية" التي تحولت إلى "حزب اشتراكي طليعي" رغم أن الجبهة أو الحزب بعد ذلك نجح في توحيد "سلطنات ومحميات حضرموت" في محافظة واحدة.
والواقع أن حكومات الجنوب قبل الوحدة مع الشمال أولت حضرموت عناية كبيرة نظرا لأهميتها الاستراتيجية ولاحتوائها على ثروات طبيعية ومعدنية هائلة، إلا أن ذلك الاهتمام لم يكن كافيا في نظر الكثير من الحضارم، حتى بعد أن ضاعفت حكومات ما بعد الوحدة منه.
خلفية تاريخية
مثلت حضرموت شوكة الميزان في أخطر المراحل التي مر بها جنوب البلاد قبل الوحدة، فعندما احتدم الصراع داخل "الحزب الاشتراكي" الحاكم، واندلعت كارثة ما يعرف بـ13 يناير/كانون الثاني 1986، ظهر أن هناك طرفين متنازعين لا علاقة لنزاعهما بمبادئ "الاشتراكية العلمية" ولكن بتنافس قبلي واضح بين كل من قبائل الضالع ويافع من ناحية، وقبائل أبين وشبوة من ناحية أخرى،
وهنا جرى التوافق على اختيار السياسي الحضرمي علي سالم البيض أمينا عاما للحزب، والتكنوقراطي الحضرمي الآخر حيدر أبو بكر العطاس رئيسا لمجلس الدولة، لكن هذه المعادلة لم تنجح ولم تدم طويلا، فقد ظل الخلل واضحا في استئثار الطرف القبلي المنتصر بمعظم مفاصل السلطة، رغم وجود البِيض والعطاس على رأسها.
وتشاء الأقدار أن ينفرد البيض (الحضرمي) دونا عن غيره بقرار الذهاب إلى الوحدة بمقتضى اتفاق مع شريكه الرئيس الراحل علي عبدالله صالح، في الـ30 من نوفمبر/تشرين الثاني 1998، وإعلان الوحدة بعد ذلك بين شطري اليمن يوم 22 مايو/أيار 1990 حيث أصبح البِيض بعد ذلك نائبا للرئيس،
إلا أن هذه "الصفقة التاريخية" لم تمر مرور الكرام بسهولة ويُسر، إذ سرعان ما اشتكى البِيض من "تهميش" لدوره، وقرر العودة للاعتكاف في عدن،
لكن الواقع أنه تعرض لضغوط من شركائه الجنوبيين أكثر من الشماليين، بحجة أنه أقحمهم في "وحدة" مع أكثرية لا قدرة لهم على منافستها سواء بالانتخابات أو القتال.
حرب "الانفصال" وما بعدها
عندما قرر الِبِيض من عدن الدخول في مواجهة مسلحة دامية لحسم الخلاف لم يقوَ على ذلك، فقرر الذهاب إلى المكلا في ساحل حضرموت لإعلان الانفصال وفض الوحدة مع الشمال، لكنه اضطر بعد ذلك بفعل الضغط العسكري الذي مارسته عليه قوات صالح بقيادات جنوبية من خصومه أن يتجه إلى سلطنة عمان لطلب اللجوء لديها بشروط معروفة تم الاتفاق عليها بين الزعيمين الراحلين صالح، وسلطان عمان الراحل السلطان قابوس بن سعيد، لا يتسع المجال لشرحها.
قال صالح في خطاب علني إن العاهل السعودي الراحل الملك فهد بن عبدالعزيز، طلب منه الإسراع في دخول قواته إلى عدن، بعد مغادرة البيض لها، لتخفيف الكلفة الإنسانية للحرب، لكن صالح فضّل المماطلة والانتظار لحين سيطرة قواته على المكلا قبل عدن خشية من "مكيدة" قد تؤدي إلى انفصال حضرموت لعلمه بالأهمية القصوى لهذه المحافظة.
حضرموت والسعودية
بحكم الروابط الجغرافية والتاريخية بين الجانبين، تلعب الرياض دورا حيويا بالغ الأهمية في خفض التوترات الجيوسياسية الناجمة عن التجاذبات التي تعانيها حضرموت داخليا وإقليميا، بهدف تأمين استقرار هذه المحافظة الكبيرة، انطلاقا من إدراكها لعمق الترابط الأمني والاستراتيجي وحتى المجتمعي المتداخل معها بشكل وثيق ومعقد، كأقرب جار لها، وذلك على الأقل إلى حين اتضاح الرؤية بشأن مستقبل حضرموت واليمن والمنطقة ككل.
الخلاصة أنّ اليمن بكل أوضاعه السياسية والعسكرية والإنسانية مشكلة كبيرة معقدة لنفسه ولجيرانه وأصدقائه حول العالم الذين يعتقدون أن انقساماته أو انفصال جنوبه عن شماله لن يؤدي إلا إلى صومال جديدة في هذه المنطقة المضطربة، أو في أحسن حال إلى إضافة دولتين فاشلتين إلى قائمة الدول الفاشلة.
واقع يذكرنا بما قاله الأكاديمي الحضرمي الراحل ناصر باصرة بأنه "إذا انفصل الجنوب عن الشمال فسوف يبدأ أبناؤه الاقتتال بينهم في اليوم التالي، وستتكرر الحرب مع الشمال" لتعيد إنتاج الماضي بكل ويلاته وكوارثه.
أنور العنسي
صحفي ومراسل يمني في تلفزيون بي بي سي عربي.