
"حماس"... إلى أين نحن ذاهبون؟
أكثر من أيّ وقت مضى ثمّة حاجة إلى مراجعة النفس تجاه ما يجري في قطاع غزّة. يسهل صياغة مواقف وعبارات كبيرة، ولكن يصعب أن تدلّ هذه الصياغات، وتلك المواقف والعبارات، على واقع الحال،
أن مخطّط التهجير يمضي، وأن إسرائيل تُحضّر رفح لتكون أكبر "معتقل" في العالم، الخروج منه إلى المنفى الطوعي (أو القهري) فقط. من لا يرى ذلك، ويصرّ على أن الأمور تمام، يعرف أنه يخدع نفسه قبل أن يخدع الآخرين،
ومن يقول لك: "لا تقلق"، يعرف أن هناك مليون سبب يدعو إلى القلق، ولكنّه يريد منك أن تضعها جانباً وتصدّقه.
يمكن لحركة حماس أن تخوّن العالم كلّه، ولكن هذا لا يعفيها من المسؤولية عن مآلات ما يحدُث، ويمكن لها أن تتهم الجميع بالتخاذل، وربّما بالتآمر، ولكن أيضاً هذا لا يعني أنها غير مسؤولة عن نتائج ما يجري أيضاً.
إن تخوين عشرات الآلاف الذين يخرجون في غزّة من أجل وقف الحرب بأيّ ثمن (يجب وضع خطّ تحت عبارة "أيّ ثمن") لا يساعد في تخفيف الاحتقان في الشارع الفلسطيني الداخلي في غزّة، وهو يتدحرج إلى مزيد من الضغط والانفجار.
هؤلاء هم من صمدوا في شمال غزّة، وتحمّلوا البرد القارس والصيف الحارّ في خيام واهنة في سوافي رفح ومواصي خانيونس، لا يمكن أن يصبحوا فجأةً مأجورين أو "تحرّكهم قوىً خارجية".
أسمى ما يقوم به أيّ حزب سياسي هو الإصغاء لنبض الشارع، لا يهم موقف أيّ أحد يعيش خارج غزّة، لأن موقفه ذلك يصوغه وهو مرتاحٌ في بيته أو في المقهى،
وفي مرّات كثيرة بدافع وطني أو قومي أو ديني، ولكن أيضاً صاحب الموقف الحقيقي هو من يدفع الفاتورة منذ قرابة 17 شهراً. لا يعيب "حماس" أن تُقدم على خطوة قد تبدو لها غير مُرضية، ولكنّ كثيراً ممّا جرى لم يكن مُرضياً، ولم تكن نتائجه ضمن دائرة التوقّع.
جرت مياه كثيرة تحت الجسر وتغيّرت حقائق كثيرة، لكنّ الثابت أن إسرائيل تمضي في مخطّطها بالإجهاز على غزّة بشكل كامل.
ليس من الحكمة أن تكون على صواب، فالصواب يُفيد في بناء القناعات، لكنّه لا يخلق حقائق، الحقائق المؤلمة والمآلات الكارثية في الأرض تتطلّب وقفةً مع النفس.
هذا ليس وقت تحميل المواقف أكثر ممّا تحتمل، ولا وقت النقاش الفلسطيني الداخلي، وإن كنّا في حاجة إليه، إنه وقت التفكير الجمعي في وقف عملية تهجير أهلنا في قطاع غزّة،
حتى لا يأتي وقتٌ يصبح فيه مثل هذا القول أيضاً ضرباً من الخيال، ويصبح وقف كلّ شيء أمراً لا يمكن تحقيقه.
ثمّة لحظات إذا اجتزت فيها طريق الغابة المظلم ليست مهمّة نياتك أبداً، ولا تنفع مقاصدك من السير في الطريق، لأنك ببساطة ضللت الطريق، ولن تعرف كيف ترجع. نحن نقترب من هذه اللحظة ونقترب منها بشدّة.
كلّنا مدينون بشرح وتفسير وتبرير، كلّ طرف مدينٌ للجميع بذلك، ولكن أيضاً هذا ليس وقته.
غير مهم سخطنا على العالم، وغير مهم حقيقة مواقف الدول الكبرى، وليست مهمةً مشاعرنا وأفكارنا، لأن ما يهم أن وجودنا في قطاع غزّة بات مهدّداً، وأن استمرار شعبنا في ما تبقّى من الشريط الساحلي من أرضنا بات مشكوكاً فيه.
هناك مشكلة حقيقية إذاً. كانت "حماس" لا ترى ذلك، وتصرّ على أنها تقوم بإفشال مخطّطات العدو، وعلى "حماس" أن تقول لنا صراحة "على وين رايحين؟".
إن افترضنا أن شيئاً لن يتغيّر في الواقع، ورفضنا كلّ شيء، وتمسّكنا بمواقفنا، وواصلنا ضرب رؤوسنا في الحائط الذي لا ينكسر ونحن ننزف، ماذا نفعل؟ هل نواصل ضرب رؤوسنا في الحائط حتى تحدُث معجزة وينكسر؟...
لا أحد يؤمن بزمن المعجزات في السياسة، ولو كان ثمّة معجزات لتحقّقت، ولكن الوضع لا يبشر بأيّ خير. تحتاج "حماس" إلى وقفة تأمّل وحساب مع النفس، من أجل أن تفكّر جيّداً في كيف يمكن إنقاذ ما يمكن إنقاذه، إن كان ثمّة ما يمكن إنقاذه.
لم يكن على "حماس" أن تتفاوض بشكل مباشر مع الأميركيين. هي اعتبرت الجلسة وفنجان القهوة اعترافاً وإقراراً بقوّتها، ولم تفهم مخاطر ذلك،
فالحوار مع الأميركيين يعني أن "حماس" أقرّت أنهم طرف في الصراع معها، وهم وإن كانوا كذلك، فإنهم كانوا يترجمون ذلك بدعم إسرائيل.
ولكن، بعد الحوار المباشر مع "حماس" باتوا طرفاً، وبات رفض "حماس" مقترحهم رفضاً لهم، وهو ما فُسّر من إسرائيل بأن "حماس" لا تبالي أيضاً بمواقف الولايات المتحدة. النتيجة واضحة،
إسرائيل أخذت وعد ترامب (على وزن وعد بلفور) لإجلاء سكّان قطاع غزّة، وتفريغ القطاع من الفلسطينيين.
انظروا كيف اختلف الموقف الإسرائيلي كثيراً بعد فشل حوار "فنجان القهوة" بين "حماس" وواشنطن، فإسرائيل لم تعد معنيةً بأيّ صفقة، وأعاد بنيامين نتنياهو إيتمار بن غفير إلى الحكومة، من أجل ضمان استقرارها لمواصلة الضغط باتجاه إفراع غزّة من سكّانها.
لم يكن على "حماس" أن تقوم بذلك، وفهمها الأمر لم يتجاوز حدود المناكفة مع الخصوم ضمن سعيها ونزاعها على التمثيل الفلسطيني.
كان يمكن مواصلة الحوار مع الأميركيين عبر الوسطاء، لأن جلبهم ليكونوا طرفاً مقرّراً بشكل حتمي أمر يعكس سوء تقدير في السياسة. ليست القصة أن تجلس مع الأسد أو الذئب في الحجرة نفسها، لأنه سيأكلك في نهاية المطاف.
لم تعد القصّةُ قصّةَ أسرى ولا رهائن، بل قصّة المرحلة الثانية من إزالة الوجود الفلسطيني من الجغرافيا، وما سيحدُث في غزّة سيُطبّق بوسائل وآليات مختلفة في الضفة الغربية لاحقاً، في حال نجح المخطّط في غزّة، لذا ثمّة مسؤولية في وقف ما يجري في غزّة.
بقاء شعبنا بعد النكبة (على ما في النكبة من وجع وفقد وخسارة) كان أهم انتصار، لأنه عنى وجودنا وبقاءنا في أرضنا. حين أُوقع بنا التهجير والتشريد، وبمدننا وقرانا، كان يجب أن نُكنس كالغبار عن عتبات البيوت، وننسى مثلما حدث مع كثير من الشعوب الأصلانية في التاريخ، لكن هذا لم يحدُث بسبب بقائنا في الأرض.
لقد تآكلت هزيمتنا كلّما كبرنا وزدنا عدداً على ترابنا. الآن يُصار إلى إنقاصنا وإزالتنا.
وقد يقول بعضهم، حتى لو قامت "حماس" بأيّ خطوة في هذا الاتجاه، ستواصل إسرائيل عملياتها من أجل إفراغ غزّة من السكّان، وهو قولٌ يمتلك كثيراً من الوجاهة، فإسرائيل لا تحتاج إلى مبرّر لقتل الفلسطينيين، ولكن أيضاً السعى لتحريك العالم أمر مهم. مشكلتنا أن التحوّل في الرأي العام العالمي،
وأيضاً في مواقف بعض الدول بعد الإبادة التي كانت وسائل الإعلام تبثّها بشكل مباشر في شاشات التلفاز، لم تنجح في إيقاف الجرائم، ومشكلتنا أن صعود اليمين المُتطرّف في عواصم العالم الكبرى كلّها ساعد في تحويل المظاهرات والاحتجاجات والتضامن فعلاً "غير ذي جدوى سياسية".
ومع هذا، فإن تنسيقاً فلسطينياً مشتركاً، وتنسيقاً وترابطاً مع الموقف العربي، الذي تمثّله الدول ذات التأثير في السياسة الإقليمية، خاصّة مصر وقطر والسعودية والأردن، ويمكن إشراك دول المغرب العربي، يمكن أن يساهما في إحداث تحوّل في مواقف الدول تجاه الضغط على تلّ أبيب.
وبالعودة إلى التنسيق الفلسطيني المشترك، أقصد فعلاً لقاءً فلسطينياً داخلياً يجمع التنظيمات من أجل التفكير في مصير الحرب، فمستقبل غزّة ومصيرها لا يمكن أن يكون قراراً خاصّاً بقيادة "حماس". الأطراف الفلسطينية تتحدّث مع العالم، ومع كلّ القوى، إلا أنها لا تتحدّث مع نفسها، وهذا أمر لا يمكن تفسيره.
صحيحٌ أن مفتاح الموقف الإسرائيلي موجود في درج صغير في المكتب البيضاوي، ونحن في حاجة إلى موقف عربي حازم بخصوص العلاقة مع واشنطن، وحين أقول حازماً أستذكر الموقف العربي الموحّد خلال حرب العام 1973.
الآن العرب لا يشنّون حرباً، ولكن يوقفون حرباً، وهم في حاجة إلى موقف حازم من أجل فعل ذلك. ولكن لا يمكن للدول العربية أن تقوم بذلك من دون مبادرة من "حماس" وتفويض منها، واستعداد لدفع فاتورة ذلك، ومن دون اتفاق فلسطيني داخلي يقضي بإنهاء الحرب بأيّ ثمن على قاعدة أن وقف الخسارة مربَح، من دون الصراع حول "اليوم التالي"،
لأنه لن يكون هناك يومٌ تالٍ إذا استمرّ الوضع على هذه الحال. ما أقوله إن ثمّة مسؤولية على الدول العربية ذات التأثير الإقليمي في أن يكون لها موقف موحّد صارم مع إدارة ترامب بعد تطوير موقف فلسطيني موحّد تجاه إنهاء الحرب.
علينا أن نفكّر بصوت واحد، وعلينا أن نتّخذ مواقفَ أكثر جرأة من مقدرتنا على التحمّل، ووقف الحرب بأيّ ثمن أوّلها
هل فات الوقت على ذلك كلّه؟... أرجو ألا يكون قد فات، وأرجو أن ينتهي هذا الكابوس كلّه،
ولكن أيضاً قبل كلّ شيء علينا أن نفيق من النوم من أجل أن ينتهي الكابوس، وعلينا أن نفكّر بصوت واحد، وعلينا أن نتّخذ مواقفَ أكثر جرأة من مقدرتنا على التحمّل، ووقف الحرب بأيّ ثمن أوّلها، لأن البديل بات واضحاً، وبات المضي فيه أكثر إغراءً لإسرائيل من أيّ شيء يمكن أن نقدّمه للأسف.
نحن في حاجةٍ إلى استراتيجيةٍ شاملة، تبدأ بلقاء فلسطيني شامل وتفويض فلسطيني جماعي في مصير الحرب، واستعداد "حماس" من أجل ذلك يعني تفويضها الجميع الفلسطيني في موضوع الحرب، وتفويض قضية الأسرى إلى جهة عربية تكون السلطة الفلسطينية جزءاً منها، وتطوير موقف عربي موحّد ضاغط على واشنطن.
إذا هجّرت غزّة، فليبشر العرب بأن "إسرائيل الكُبرى" قائمة لا محالة، وحدودها يعرفها الجميع. ولكن، قبل ذلك تقع المسؤولية على "حماس" أن تقول لنا "على وين رايحن؟".
عاطف أبو سيف
روائي وقاص فلسطيني، وزير الثقافة السابق.