عن الإرهاب الأميركي في اليمن
في عقيدة القوة الأميركية، يصبح الإرهاب، على اختلاف تعييناته، أداةً بديلة عن الدبلوماسية، وأداةً لفرض استحقاقات الهيمنة وتثبيت معادلة الردع، وإن عكس اضطرابات القوة وعنفها المنفلت، وهو ما يتجلّى في حربها الدائرة في اليمن،
إذ لا خطوط حمراء هنا، لا اعتبارات لحقوق الإنسان ولا القانون الدولي، ولا تفاوض مع إيقاف القتل وغايات العقاب، مقابل استمرار نفي السياق المدني والإنساني لكلفة حربها المروّعة على اليمنيين.
وفقاً لعقيدة القوة الأميركية واستدعاءاتها، تبنّت الإدارة الأميركية استراتيجية الحرب المفتوحة في إدارة حربها في اليمن، إذ توفّر لها الحالة الدولية والإقليمية، وأيضاً الوضع اليمني المنقسم، مجالاً أوسع لتسييج الجغرافيا اليمنية فضاءً عسكرياً مفتوحاً، وغير مقيّد بأي إخلال في معادلة التوازنات الإقليمية، جرّاء استمرار حربها في اليمن.
وإذا كان الهدف المعلن للعملية العسكرية الأميركية، بعيداً عن مفاعيل الضغط على إيران، حليف جماعة الحوثي، في برنامجها النووي، هو تأمين الممرّات المائية في المنطقة من هجمات الجماعة، وشلّ قدرتها بوصفها قوة إسناد للمقاومة الإسلامية في قطاع غزّة،
على محدودية نتائج عملياتها، فإن الإدارة الأميركية، بعد أكثر من شهر من بدء العملية العسكرية، فشلت في تعطيل القدرة العسكرية للجماعة، إذ واصلت استهداف العمق الإسرائيلي،
وأيضاً تنفيذ هجمات ضد حاملات الطائرات الأميركية في البحر الأحمر، إلّا أن الإدارة الأميركية وبدلاً من تقييم نتائج عملياتها في اليمن، وتغيير طبيعة إدارة حربها، كثفت عمليتها العسكرية في المناطق الخاضعة لسلطة الجماعة، التي باتت تتّخذ نمط إرهاب الدولة، الذي يتضمّن استعراض القوة واضطراباتها أيضاً،
مقابل تثبيت سردية أحادية لحربها، بكونها دقيقة وناجحة وذلك للمضيّ في حربها، سواءً نجحت في تحقيق أهدافها العسكرية ضد الجماعة أم لم تنجح، إلى جانب، وهو الأهم، الاستمرار في تجريد البيئة المدنية من الحماية التي تكفلها القوانين الدولية في الحروب، وجعلها هدفاً عسكرياً مباشراً لعملياتها في اليمن.
لم يكن استهداف البنية الاقتصادية الحيوية في اليمن، بمؤسّساتها السيادية وببنيتها التحتية العامة والخاصة أيضاً، يمثل خطأ جانبياً للإدارة الأميركية، بحيث يمكن تجاهله أو حتّى تكييفه كأخطاء واردة تحدُث في أي حرب، بل شكل صلب أهدافها العملياتية في اليمن،
إذ إنّ جرداً أولياً لعملياتها العسكرية، سواءً من حيث عدد الهجمات وطبيعة الأهداف على مستوى البنية العسكرية التي جرى استهدافها، وبين البنية الاقتصادية، لأدركنا أن غاية الحرب الأميركية هي تدمير البنية الاقتصادية، مستوى عقابياً أولياً موجّهاً ضدّ اليمنيين في المقام الأول،
فإلى جانب استهداف محطّات الطاقة والكهرباء، وإخراج عدد منها من الخدمة وتدمير مشاريع تحلية المياه ومرافق خدمية أخرى، ركّزت العملية العسكرية الأميركية على استهداف البنى الاقتصادية الحيوية المفترض تحييدها في الحروب،
إذ تحوّل ميناء مدينة الحديدة هدفاً يومياً لغاراتها، وهو ما يعد جريمة حرب وانتهاكاً صارخاً للقانون الدولي والإنساني، إلى جانب تبعات استعمال القوة المفرطة من دولة عظمى في توجيه هجماتها ضدّ البنية الاقتصادية،
خاصة في بلد فقير كاليمن ما زال يواجه تبعات حرب أهلية، ويعاني من كلفتها الإنسانية والاقتصادية، إذ إنّ مركزية ميناء الحديدة، بصفته شرياناً اقتصادياً وإنسانياً، يخدم المواطنين في المناطق الخاضعة لسلطة الجماعة، وطبيعة المخاطر المتأتية من استهدافه، تتجاوز غايات الإضرار بالمصالح الاقتصادية للجماعة، إلى تعطيل الحركة التجارية في الميناء وإعاقة تدفّق البضائع والسلع والمواد الغذائية إلى المواطنين ورفع أسعارها، ومن ثم مضاعفة الأزمة الإنسانية والاقتصادية.
من جهة ثانية، وفي سياق حربها ضد البنية الاقتصادية، انتقلت الإدارة الأمريكية إلى مستوى متقدم، من حيث طبيعة توسيع نطاق الأضرار وكلفتها متعدّدة الجوانب، وذلك بتحويل ميناء رأس عيسى النفطي إلى هدف عسكري، ففي 17 إبريل/ نيسان الجاري دمّرت مقاتلات أميركية ميناء رأس عيسى كلياً وأخرجته عن الخدمة، من بنيته التحتية إلى إحراق مخازن الوقود الاحتياطية،
إضافةً إلى ارتكاب مجزرة مروّعة راح ضحيتها أكثر من 270 مدنياً ما بين قتيل وجريح من العاملين في الميناء.
وبذلك لم تدمّر الإدارة الأميركية شرياناً اقتصادياً مهمّاً للجماعة التي تمتلك قنوات اقتصادية بديلة ومهمّة، بل دمرت ميناء يمنياً سيادياً هو ملكٌ لليمنيين، وهو ما يشكل جريمة حرب كاملة الأركان، إلى جانب، وهو الأهم، الإضرار بحياة المواطنين وبمصالحهم اليومية،
إذ يشكل الميناء مرفقاً حيوياً ووحيداً يزود المواطنين في المناطق الخاضعة للجماعة بالمشتقات النفطية، ما يعني التسبب بأزمة اقتصادية وإنسانية خانقة، لا يمكن، في الوقت الحالي، قياس تبعاتها.
بموازاة ذلك، شكل استهداف البيئة المدنية في اليمن هدفاً استراتيجياً آخر للحرب الأميركية، ومصاحباً لعملياتها العسكرية، التي لا تعني تعمُّدَ قتل المدنيين فحسب، بل نزع أي غطاء قانوني يعمل على تحييدهم من كلفة حربها المستمرّة، سواءً على نحوٍ مباشر أو غير مباشر،
إذ ركزت العمليات العسكرية الأميركية، وعلى نحوٍ متعمَّد على استهداف البيئة المدنية برمّتها، من المنازل السكنية والأزقة والأسواق والمقابر والمرافق الصحية، إلى المدن التاريخية التي تعد تراثاً إنسانياً يفترض أن تحيَّد في الحروب،
فعلى الرغم من ادّعاءات الماكينة الإعلامية الأميركية، ومن يدور في فلكها، بأن عملياتها في اليمن حدثت وتحدُث في فضاء مكاني محايد، أي خارج المجال المدني بقوامه البشري، وأنها ركّزت على استهداف منازل قيادات جماعة الحوثي ومخابئ أسلحتها المحتملة في المناطق الخاضعة لها،
ففي أي حربٍ المفترض أن تحدّد الأهداف العسكرية تبعاً لمبدأ تناسب أهمية الهدف مع مستويات المخاطر المترتبة على استهدافه، أي جحم الضرر في البيئة المدنية، وتقدير ذلك وفق مبدأ حماية المدنيين أولاً،
وهو ما عطّلته الإدارة الأميركية قانونياً، ومن ثم أخلاقياً في حربها في اليمن؛ فإلى جانب تركيز هجماتها على الأحياء الشعبية، وعلى التجمّعات السكنية والأسواق، ما تسبّب بمقتل مدنيين على نحوٍ شبه يوميّ، ومنها استهدافها لسوق "فروة" الشعبية في العاصمة صنعاء، وتسببها بمقتل وإصابة أكثر من 42 مدنياً، بينهم نساء وأطفال،
ناهيك عن تدمير منازل أثرية شكلت جزءاً من محيط صنعاء التاريخية، فإنّ الإدارة الأميركية وبتحويلها صعدة، وغيرها من المدن التي تشكل معقل الجماعة إلى هدف عسكري مستمر، لم تنزع الحماية عن المدنيين فحسب،
بل جعلتهم هدفاً عسكرياً لها، بتعريضهم للقتل والاستهداف، إذ استهدفت في 17 إبريل مركز إيواء للمهاجرين في مدينة صعدة، ما يشكل جريمة حرب مكتملة الأركان، وانتهاكاً للقوانين الدولية،
كون المركز يخضع لاشراف منظمّتَي الهجرة الدولية والصليب الأحمر، أي استهداف منشأة إنسانية خاضعة للرقابة الدولية، وتسبب القصف الأميركي على مركز إيواء المهاجرين، بمقتل 68 لاجئاً إثيوبياً، حصيلةً أوليةً،
إضافة إلى ذلك، فقد أدّى استهدافها مدينة صعدة، إلى إحداث وضع لا إنساني، جراء تحويلها منطقةً عسكريةً مغلقة، ومن ثم عقاب المدنيين اقتصادياً وإنسانياً.
ومن جهة ثانية، مع صعوبة تحييد المحيط المدني في الحروب، ناهيك عن استحالة إمكانية وجود مناطق تمثل حاضنة شعبية مغلقة لطرفٍ سياسي ما، بما في ذلك الجماعة نفسها،
فضلاً عن إخضاع منطقة للدمار والقتل والعقاب تحت أي ذريعة كانت، هو قطعاً جريمة ضد الإنسانية، ففي اليمن، عموماً، لا يمكن فصل البيئة العسكرية، سواء المعسكرات أو منازل القيادات، عن التجمّعات المدنية في الحواضر وفي القرى،
إلّا أن السردية الأميركية لا تعطل هذه الأسباب، حين تنفيذ هجماتها، بل تستخدمها ذريعةً للقتل بحجّة استهداف مقاتلي الجماعة، فقط لمنح نفسها ضوءاً أخضرَ لاستمرار مجازرها في اليمن.
تاريخياً، يتأسس السّجل السردي الأميركي على الجرائم ضد الآخرين، إذ إنّه امتداد تاريخي لنشأة الدولة، تستوي بذلك حروبها الداخلية والخارجية، من حرب فيتنام إلى حربيها في العراق وأفغانستان.
وإذا كان التذرّع بحماية حقوق الإنسان واحترام المؤسسات الأممية والمواثيق الدولية في الحروب، ظل القفاز الذي تحتمي به الإدارات الأميركية المتعاقبة للتحايل على جرائمها ضد الشعوب، مقابل ابتزاز خصومها، فإن أميركا الحالية هي النقيض التاريخي لكل تراث الحضارة الإنسانية بمؤسّساتها المدنية وقيمها السامية،
إذ إنّ عصر القوة الأميركية واضطراباتها يعني حساباً مفتوحاً للقتل، والانتهاك الذي يبدأ أولاً من تكريس مبدأ الإفلات من العقاب، وإذا كان التجلي الأبرز للبربرية الأميركية وتقويضها للمؤسّسات الإنسانية الدولية في تعطيل محاسبة الكيان الإسرائيلي على جرائم الإبادة في حقّ الفلسطينيين في قطاع غزّة، فإن خوضها حربها في اليمن، لا يعني الذهاب بعيداً في قتل المدنيين فحسب،
بل الإفلات من أيّ مساءلة، ناهيك عن العقاب، يدعمها في ذلك تماهي المجتمع الدولي مع إرهابها ووحشية الطغيان.
* كاتبة وناشطة يمنية