النُّخب اليمنية و"العدالة" الأميركية
في أدوارها السياسية، لطالما شكّلت النُّخب اليمنية حالةً مناقضةً لحركة المجتمع وتطلّعاته، فتحوّلت طبقةً منفصلةً عن محيطها، لا تتقاطع مع شرطه السياسي، ولا مع التحدّيات التي يواجهها اليمنيون.
ومن ثم، أخلّت بدورها الوظيفي نخبةً يفترض أن تمثّل المجتمع وتعبّر عن مصالحه الوطنية، ومع أن ذلك يعكس بنيتها الأصلانية طبقةَ امتيازاتٍ في المقام الأوّل،
وأيضاً أشكال العلاقات التي حكمتها تاريخياً، فإنها اليوم تذهب بعيداً في تبنّي مصالحها الذاتية على حساب حياة اليمنيين، من إسناد الحرب الأميركية إلى المراهنة على التدخّل الأميركي لتحقيق العدالة لليمنيين.
تستقي النُّخب السياسية اليمنية تمثّلاتها من العوامل التي شكّلتها، وأيضاً أشكال العلاقات التي أنتجتها، إضافة إلى الثيمات التاريخية التي باتت تميّزها، ومن ثمّ تحدّد أدوارها السياسية في كلّ مرحلة تمرّ بها اليمن.
فمن جهة، إن صعود النُّخب لم يخضع لمعايير ديمقراطية كالانتخاب السياسي، فتعبّر عن الصالح العام، فضلاً عن الأطر التي تمثّلها، بل كان نتيجة امتيازات فئوية واستثمارات للعلاقات الاجتماعية وامتيازاتها.
ينطبق ذلك على نُخب السلطة والأحزاب والجماعات، ومن ثمّ حكمتِ النُّخبَ إلى حدّ كبير علاقاتُ الولاء، سواء القروية أو الطائفية أو المناطقية، وظلّت وسيطاً ومترجماً لهذه العلاقات وديناميكيتها، وأمينة لقدرها التاريخي نخبةً تمثّل القوى المحلّية لا المجتمع اليمني، وتعكس اصطفافاته، وصفةً أخرى باتت تميزها،
لأنها تمثّل القوى المتصارعة على السلطة، فإنها تستقي مرجعياتها الفكرية والسياسية من هذه القوى التي تشغل فيها الولاءات العابرة للحدود مركز تحالفاتها وعلاقاتها،
فقد ظلّت المراهنة على المتدخّل الخارجي يحكم تموضعاتها نُخبَ إسناد للمتصارعين، وبالطبع لحلفائهم الإقليميين. ففي حين عضّد التدخّلُ السعودي - الإماراتي في اليمن، ودعمُ إيران جماعة الحوثي، الدورَ المركزي للنُّخب في تمثيل مصالح الفرقاء والمتدخّلين،
وتحوّلها رافعةً سياسيةً للصراعات البينية، فإن فشل الحلفاء في إعادة السلطة الشرعية في اليمن مقابل ترسيخ سلطة الجماعة، أدّى إلى تحجيم دور النُّخب التابعة للشرعية، ومن ثمّ تحوّلها إلى الهامش السياسي، وتفرّقها في شتات المنافي،
إلا أن التحوّلات الإقليمية الحالية، والأكثر أهمية العملية العسكرية الأميركية في اليمن التي تهدف إلى تقليم القدرة العسكرية للجماعة وربّما القضاء عليها، جعلت النُّخب الموالية للشرعية (مع انقسامها السياسي) تعوّل على هذه العوامل لحسم سيطرة حلفائها على السلطة،
وذلك بالتحايل على مفهوم السيادة واستثمار موضوع العدالة وتوظيفها في معركتها السياسية.
يأتي مصطلح السيادة الوطنية أكثر الموضوعات التي تشتغل عليها خطابات النُّخب اليمنية أهميةً، بهدف إعادة توجيه الرأي العام، وذلك من خلال آلية استثمار موضوع السيادة أو تفكيكه، إمّا لدعم القوى التي تمثّلها كالنخب الموالية لجماعة الحوثي، لتسويقها قوّةً وطنيةً تدافع عن اليمن ضدّ المتدخّل الأجنبي،
وإمّا لتفكيك مفهوم السيادة نحو حالة النُّخب الموالية للشرعية لتبرير دعم حلفائها الاقليمين في الصراع اليمني-اليمني، يدعمها في ذلك الانقسام المجتمعي الناجم عن بيئة الحرب واشتغالات أطرافها الذي جعل السيادة مفهوماً متنازعاً عليه، فمكّنها ذلك من تثبيت أطروحاتها السياسية،
وإذ كانت استعانة السلطة الشرعية حينها بالسعودية طرفاً إقليمياً منح النُّخب الموالية للشرعية (إلى حدّ ما) معطىً قانونياً تشتغل عليه لتبرير الاستعانة بالمتدخّلين في الصراع ضدّ الجماعة،
فاستطاعت تسويغ التفافها على معاني السيادة الوطنية وتجزئته وإفراغه من مضامينه، فإن دور جماعة الحوثي في محور المقاومة الإسلامية، إبّان حرب الكيان الإسرائيلي على قطاع غزّة، أنتج في المقابل مستويات من الانقسام السياسي،
تمركزت أيضاً في مفهوم السيادة وتبعاتها على اليمن واليمنيين، وذلك جراء تحويل اليمن جبهةَ إسناد للمقاومة، ويمكن استقراء الانقسام السياسي بمواقف النُّخب الذي فرضته مشاربها السياسية، وبالطبع ولاءاتها الإقليمية، وأيضاً أيديولوجيتها الدينية، وإن عكس، إلى حدّ ما، تحوّلاً في التحالفات السياسية،
فإنه يمكن إدراك الصوت الأبرز في مواقف شريحة واسعة من النُّخب الموالية للشرعية في تعاطيها مع مفهوم السيادة، وكيفية تعطيله قانونياً وسياسياً،
ففي مقابل تأييدها للعملية العسكرية الأميركية، وتبريرها، تحايلت على مفهوم السيادة بالقفز عن انتهاك الولايات المتحدة الأراضي اليمنية، وتسويغ هجماتها على اليمن،
ومن دون أيّ غطاء قانوني دولي مقابل تحميل جماعة الحوثي المسؤولية عن تدويل الصراع في الممرّات المائية اليمنية، مبرّراً سياسياً للعملية الأميركية، ومن ثمّ فصل ما يحدُث في اليمن عن حرب الكيان الإسرائيلي في قطاع غزّة، وإن وظّفته الجماعة لصالحها.
ومن جهة أخرى، اجتزاء طبيعة العملية العسكرية الأميركية بأنها تستهدف الجماعة لا اليمن، مقابل نزع السيادة عن مؤسّسات الدولة، أيْ إن الغارات الأميركية تستهدف البنية العسكرية للجماعة لا مؤسّسات الدولة اليمنية ومقدراتها، ومن ثمّ شرعنة تدميرها، لتحرص النُّخب على تعطيل مفهوم السيادة على اختلاف مستوياته، والالتفاف عليه لإسناد الحرب الأميركية في اليمن.
في المقابل، تحضر العدالة في خطابات النُّخب اليمنية موضوعاً موازياً لمفهوم السيادة، وذلك بزجّ قيمة العدالة وإعادة توظيفها محصلةً للعملية العسكرية الأميركية ضدّ جماعة الحوثي، من خلال توظيف جرائمها ضدّ اليمنيين، واستغلال المظلوميات المجتمعية والإنسانية المترتّبة عن عسفها ضدّ المواطنين، ومن ثمّ منح العملية العسكرية الأميركية قيمةً أخلاقيةً.
ومن جهة أخرى، تحويلها فرصةً تاريخية لليمنيين لتحقيق العدالة للضحايا. ويعتمل خطاب النُّخب في سياق استثمار فكرة العدالة بمستويات عدّة، أبرزها تجريد العملية العسكرية الأميركية من أيّ كلفة بشرية أو مدنية، وفي مستوى آخر حصرها بأنها عملية موجّهة (ومحدّدة) تستهدف قتل قيادات الجماعة، ومن ثمّ تحقيق العدالة ضدّ قياداتها المتورّطين في جرائم حرب ضدّ اليمنيين.
ومن جهة أخرى تجاهل ضحايا الغارات الأميركية اليومية لتبرير استمرارها، إلى جانب تعطيل أيّ شكل من التضامن المجتمعي مع الضحايا المدنيين، مقابل تبرير العقاب ضدّ المواطنين في المناطق الخاضعة للجماعة، لأنهم يعيشون في مناطق سلطتها، فضلاً عن نزع أيّ تبعات اقتصادية أو إنسانية مترتّبة عن الحرب الأميركية في اليمن.
تستثمر النُّخب اليمنية المفاعيل التي ولّدتها العملية الأميركية لترويج فكرة العدالة، فإلى جانب ضبابية موقف المجتمع اليمني من الغارات الأميركية، الذي أعاق بلورة موقف مجتمعي موحّد يدينها، مع رفض قطاعات واسعة الحرب الأميركية،
وأيضاً تضامنهم مع الفلسطينيين في قطاع غزّة، فإن غياب قنوات مستقلّة للتعبير عن موقفهم السياسي، مقابل تسييس الحرب الأميركية في اليمن، ونزعها من سياقها الإقليمي، ضاعف من الإرباك الشعبي. ومن جهة ثانية، عمّقت انتهاكات جماعة الحوثي،
وأيضاً كيفية إدارتها للسلطة في المناطق الخاضعة الانقسامَ المجتمعي حيال استهداف الجماعة، وهو ما بات العصب الحسّاس لتعضيد اشتغالات النُّخب في الوقت الحالي، من خلال استثمار مفاعيل الجرمية الحوثية لتعضيد موقفها السياسي،
إذ إن تعدّد وتنوّع الجرائم التي مارستها الجماعة ضدّ اليمنيين، سواء في مناطق خصومها أو في المناطق الخاضعة لها، بما في ذلك استمرار حملة اعتقالاتها وإرهابها المواطنين في المناطق الخاضعة لها، التي تصاعدت حدّتها منذ بدء الحملة الأميركية، ولّد حالةً من التشفي بين أوساط اليمنيين جرّاء مقتل عدد من قيادتها، وتحوّلهم هدفاً عسكرياً دائماً للغارات الأميركية، ومن ثمّ تجاهل أيّ تبعات أخرى على المدنيين.
أيضاً، فإن غياب مؤسّسات ضبطية وقضائية لمحاكمة المتورطين في الجرائم ضدّ اليمنيين، سواء لدى جماعة الحوثي أو لدى الأطراف الأخرى، مقابل تأبيد مظلومية أهالي الضحايا، جعل قطاعات منهم تعوّل على القوّة الأميركية للانتقام لذويها.
كما أن تجميد العملية السياسية، واستقرار موازين القوى بين أطراف الحرب الرئيسة (الجماعة وخصومها المحلّيين)، جعل قطاعات من المجتمع تعوّل على الحرب الأميركية ضدّ الجماعة لهزيمتها، لمجرّد كسر معادلة التوازن العسكري والسياسي، والخروج إلى طريق واضح ينهي الحرب في اليمن، وينهي معاناة اليمنيين.
ومن ثمّ، فإن هذه الانقسامات والتباينات في الرؤى والتوجّهات (على اختلاف حيثياتها وغاياتها) هي المادة التي تشتغل عليها النُّخب لدعم مقولتها عن القوة الأميركية غايةً لتحقيق العدالة.
أمّا ما يخص النُّخب اليمنية، فإن الغاية من دعم المتدخّلين هي حسابات ربحها، وفي مقدّمتها دعم موقعها وموقع حلفائها في السلطة، سواءٌ كان ذلك بإسناد حروب الجيران في اليمن أم بالغارات الإسرائيلية أم بالحرب الأميركية. فمع جرمية الجماعة واستمرارها قوّةً متغلّبةً ومدمّرةً للمجتمع اليمني،
فإن شرط الوصول إلى السلطة وحصد امتيازاتها بالنسبة للنُّخب حصان طروادة، الذي ستعطّل وتستثمر من أجله أيّ شيء، من سيادة اليمن إلى مظلومية الضحايا، وإن كانت المراهنة على أميركا لتحقيق العدالة يكشف إفلاسها السياسي والأخلاقي.
* كاتبة وناشطة يمنية