نضال ضد أنفسهم: ملحمة النخب اليمنية في خيانة الوطن من كل الاتجاهات
في بلدٍ تتناسل فيه التراجيديا من رحم التراجيديا، تقف النخب السياسية اليمنية بكل أناقتها المزيفة وتاريخها الملطخ، لتقدم لنا عرضاً جديداً من عروض السيرك الوطني:
أولئك الذين ناضلوا من أجل تحقيق الوحدة اليمنية بالأمس، هم أنفسهم من يناضلون اليوم من أجل تفكيكها. فيا لها من سخرية تاريخية فاضحة، ويا لها من نخبة تُبصم للتاريخ بالخيانة في كل مرحلة، دون أن يرمش لها جفن أو يهتز لها ضمير.
نعم: مناضلو الأمس، مقسّمو اليوم. كأنّهم لم يرفعوا شعارات الوحدة، ولم ينشدوا "رددي أيتها الدنيا نشيدي"، ولم يوقّعوا على اتفاقيات احتفلوا بها ببدلاتهم المكوية وخطبهم الرنانة.
على إن هؤلاء ذاتهم يعكفون الآن على إعادة رسم خرائط الوطن بالمشارط، كلٌّ منهم يريد قطعة من الجثة باسم “الحق التاريخي” أو “الهوية المظلومة” أو “الحل الفيدرالي المُفتّت”.
ولكن العار كل العار أن تتحوّل الوحدة من منجز قومي إلى لعنة يهرب منها صانعوها، وأن يُعامَل سبتمبر وأكتوبر كما لو كانا خطأ تاريخياً.
فقد أصبح النشيد الوطني نشيداً موسمياً، تسمعه في حفلات البروتوكول فقط، بينما تُشن الحملات السياسية والإعلامية ضد كل ما يمثّل "الثورة" و"الجمهورية"، وتحظى الإمامة بثوب جديد وكاريزما كاذبة ومقاعد تفاوضية، بفضل دعم النخب المنكوبة بروح الانتهازية.
من هنا فإن جيش الجمهورية الذي كان يُنتظر أن يكون سورها المنيع، تم تفكيكه وتحويله إلى فصائل مرتزقة في خدمة المشاريع الصغيرة، باسم "الدمج" تارة، وباسم "الحرب على الإرهاب" تارة أخرى، بينما يتم بناء جيوش أخرى في الكهوف والجبال، شعارها الصرخة وخطابها اللطم.
وكل هذا تحت أنظار أحزاب لا همّ لها سوى توزيع الحقائب، والتفاوض على "النسبة" في كعكة مفخخة.
كذلك أي خيانة هذه التي تجعل من قاتل الأمس "حليف اليوم"؟ ومن مخرب الحاضر "رجل دولة الغد"؟
صدقوني النخب السياسية اليمنية لا تؤمن بالوطن، بل تؤمن بالفرصة. هم خبراء في ركوب الموجة، في تبديل الجلود، في تلويث المفاهيم، حتى جعلونا نكره كلمات مثل "الثورة"، "الحرية"، "الوحدة"، "الهوية"، لأنها خرجت من أفواههم وهم يمضغونها بالكذب.
ويا لسخرية التاريخ حين يتحول الانفصال إلى "حق" في أفواه من كانوا يرون الوحدة مصيراً مقدساً. ولكن لا غرابة.
فمن يخون سبتمبر وأكتوبر، ويخون دماء الشهداء، لن يصعب عليه خيانة الجغرافيا. ومن يتخلّى عن جيشه، لن يتردد في الاستعانة بالميليشيات. ومن يفاوض قاتل الشعب، لن يتردّد في بيع قضيته.
على إننا أمام طبقة سياسية لا تصلح لشيء سوى تدبيج الفشل، وتدجين الذاكرة، وتدوير الخراب. نخبة صنعت الثورة لتخونها، وصنعت الدولة لتقوّضها، وصنعت الوحدة لتفتتها. هم أشبه بتلك الطفيليات التي لا تعيش إلا في الفوضى، ولا تزدهر إلا في مستنقع الصراع.
والسؤال هنا: إلى متى يستمر هذا العبث؟ إلى متى نظل أسرى هذه المعادلة الجهنمية التي تحوّل الوطن إلى لعبة في يد العاجزين؟
ربما لا نملك الإجابة، لكن ما نملكه هو الغضب. غضبٌ لا يجب أن يُنسى، ولا يُحوّل إلى شعارات، بل إلى وعي جديد لا يسمح لهم بالبقاء.