
الصحافة اليمنية... عنوان واقعي لخبر الحرب
تعيش الصحافة اليمنية واحدة من أسوأ فتراتها منذ نشأتها في أربعينيات القرن الماضي كنتيجة لما تصنعه الحرب التي تجرم المهنة خصوصاً، والصراع اتخذ بعداً طائفياً يرى أصحابه في الصحافي عدواً يجب إسكاته بشتى الطرق حتى بات عليه توقع أسوأ الاحتمالات التي من الممكن أن تواجهه من قتل واعتقال واعتداء أو نفي في مخيمات النزوح أو بلدان الشتات في أحسن الأحوال.
وأحيت نقابة الصحافيين اليمنيين، يوم الصحافة اليمنية الـ9 من يونيو (حزيران) في ظل جو صعب ومعقد تعيشه المهنة بعد 10 أعوام من الحرب الدامية التي أنتجت واقعاً كان فيه القمع والانتهاك والتجويع مضامين مصيرية لكل العاملين والناشطين في هذا الحقل الشائك.
وفي بيان صادر عنها بالمناسبة، حيت النقابة نضالات الصحافيين اليمنيين وتضحياتهم خلال عقد من الحرب شهد تصاعداً في حدة العنف والقيود والأخطار التي سفكت الدماء على دفتر الصحافي بدلاً من حبره وأرسلت الرصاص على كاميرته ومن نجا فقد مهنته ودخله وأمنه.
بين القتل والتشريد
ومثلما كانت تزين مانشيتاتها العريضة بتفاصيل البلد المضطرب على الدوام،
لم تجد الصحافة اليمنية اليوم من يكتب رثاءها الذي تاه في أخبار الوطن المجروح بآلة الحرب التي امتدت إلى القراء وكتابهم المفضلين ليبقى الخبر معتملاً ولكن غاب قلمهُ وقرطاسه بعدما غادر الصحافيون تحت هدير الرصاص والملاحقات والتهديد في مسارات التعبئة والحشد المتبادل للقوى الحوثية التي تحكم قبضتها على العاصمة أو التابعة للحكومة الشرعية.
يدين رئيس لجنة الحقوق والحريات بنقابة الصحافيين اليمنيين نبيل الأسيدي حال الانتهاكات التي تطاول الصحافيين خلال 10 أعوام من عمر الصراع في اليمن.
وتقدر الوقائع بنحو "ألفي حالة انتهاك شملت كل أنماط الانتهاك من قتل واختطاف ومصادرة واعتقال وتغييب في السجون والشروع في القتل والتحريض وإيقاف المرتبات وحجب المواقع وغيرها".
ويكشف الأسيدي حجم الضرر الواقع على العاملين في القطاع الإعلامي الذي تضمن "إيقاف وسائل صحافية وتشريد مئات وإيقاف مرتبات العاملين في الإعلام العمومي في مناطق سيطرة الحوثي مما خلق أزمة معيشية صعبة لهم ولأسرهم".
منذ اجتياح جماعة الحوثي المدعومة من النظام الإيراني العاصمة صنعاء في سبتمبر (أيلول) 2014 قادمة من صعدة، سارعت بإغلاق عشرات الصحف الحزبية والأهلية، وبخاصة الصحف المحسوبة على الحكومة الشرعية،
واعتقلت عشرات المشتغلين بالمهنة، فيما تاه البقية بين البطالة والهجرة.
"السوشيال" في قلب المسؤولية
وعندما ضاقت الحال بالعاملين في هذا المجال في اليمن على نحو غير مسبوق، جاءت التقنيات الرقمية الحديثة ووسائل الاتصال الحديثة لتغطي الفراغ الذي أحدثته الحرب، ومنحت الكلمة والعدسة لكل الناس ومع ذلك لم يسلم كل من يوثق لحظات الأحداث من ضيق وشطط للقوى السياسية التي تحكم قبضتها في الجغرافيا الخاصة بها.
ينوه الأسيدي إلى أن "آثار القمع الصحافي لم تتوقف عند الضرر الذي لحق بالعاملين في هذا المجال بقدر ما تضرر أيضاً حق المجتمع في الحصول على المعلومة وكشف الحقائق وأخلاقيات المهنة التي تسعى كافة الأطراف إلى تجييرها لخدمة مشاريعها فقط حتى ضد الهواة والناقلين المستقلين".
وعلى رغم هذا الواقع القاتم، لم تتمكن الأشلاء وركام ودخان المعارك من حجب ومضة العدسات بفضل العالم الرقمي الذي تحمل الدور الأبرز في كشف الأحداث ونشرها بتجرد واستقلالية، على رغم ضيق القوى المسلحة التي كلما طاردت الصحافيين اكتشفت أن هواتف عامة الناس أضحت صحافة جديدة مستقلة بلا رقيب يحجب ما لا يريد في ظل حال صراع السطوة والنفوذ ومساعي إخفاء الحقيقة واعتسافها.
وفي الحال اليمنية، لعبت مواقع التواصل دوراً مفصلياً في طبيعة الصراع بكشف الكثير من الانتهاكات والسلوكيات فضلاً عن عشرات الجرائم التي تحولت إلى قضايا رأي عام دفعت الجهات المعنية لاتخاذ إجراءات عدلية تجاهها ولو من باب رفع الحرج الشعبي.
ومع ذلك لم يسلم هؤلاء الهواة والناشطون من المطاردات والقمع والاتهامات والتهديد بالقتل والعقاب.
عن ذلك يؤكد الأسيدي أن نقابتهم "تركز على إدانة كل السلوكيات التي تسعى إلى حجب الحقيقة وتطالب بإيقاف هذه المعاناة والقيود التي حرمت الصحافي من العمل بأمان وحرية".
ووفقاً لواقع الحال، لا يمكن الحديث عن واقع الصحافة اليمنية بمعزل عن سياقين مهمين يجسدان واقع ما وصلت إليه اليوم، يتمثل الأول في الحرب التي بدأت عقب انقلاب الحوثي على الشرعية في 2014 ليصبح مناخاً طارداً وغير موائم لاستمرار العمل،
وثانيهما التطور الرقمي الذي حول التحقيق والخبر والاستقصاء إلى "تدوينة" صغيرة، أو "بوست" برقي مختصر يومض في الهواتف الذكية لتتهادى تفاصيل الحدث بين الأيادي بوداعة متناهية في وقت وجهد قياسيين، فكانت الغلبة لوميض الشاشة على رغم جاذبية الورق.
بلا مرتبات
يتطرق الأسيدي إلى موضوع "إيقاف ميليشيات الحوثي مرتبات الصحافيين في المناطق التي تسيطر عليها منذ عام 2016 ونحملهم ومعهم الحكومة الشرعية بصرفها كالتزام قانوني وأخلاقي".
وبالنسبة إلى الجهات المتورطة في الانتهاكات قال إن "ميليشيات الحوثي والمجلس الانتقالي (يتبنى مشروع استعادة الدولة الجنوبية) وسلطة محافظة حضرموت وحالة إخفاء في الحديدة"،
وأضاف أن "النقابة في يوم الصحافة اليمني تدعو كافة الأطراف بالكف عن حال العداء على الصحافي وعدم التحريض ضده"، واتهم السلطات الموزعة في اليمن "بفرض حال عداء مفرطة ضد الصحافيين، وهذا نهج قمعي يجب أن ينتهي لحماية الحقوق الحريات المهدرة من قبل كافة الأطراف".
سبق للسلطات الحوثيين إصدار "ميثاق الشرف الإعلامي" الذي ينص على ومن بينه احترام الدستور والقانون حرية الرأي والتعبير وتعزيز قيم الولاء الوطني والسيادة والاستقلال و انتهاج خطاب إعلامي يعزز من الوحدة الوطنية،
ولكن مراقبون اعتبروه إجراء تهدف الجماعة لإضفاء المزيد من التقييد على حرية التعبير بصبغة مقننة ملزمة.
"فتاة الجزيرة"
لليمن تجربة صحافية رائدة في منطقة شبه الجزيرة العربية، وبخاصة منذ بداية أربعينيات القرن الماضي التي شهدت صدور صحيفة "فتاة الجزيرة" في مدينة عدن وجسدت التدشين الفعلي للصحافة الورقية خلال عهد الاستعمار البريطاني للجنوب اليمني،
لكن مع تزايد المحاذير الأمنية في زمن الصراع، تحولت عشرات الصحف إلى مواقع إلكترونية بمحتوى إخباري ينقل جل مواده من الصحف والوكالات الدولية، وغلب عليها طابع الانتقاء الحربي الذي تأثر بحال الاستقطاب السياسي الحاد كأحد إفرازات الأزمة.
الحوثي في الصدارة
وتحتل جماعة الحوثي صدارة الجهات المنتهكة لحرية الصحافة في اليمن،
وعن هذا يشير الأسيدي إلى أن جماعة الحوثي تتعامل "مع العمل النقابي والعمل المدني بإنكار وعدم اعتراف، بإغلاق كل القطاعات النقابية والمدنية وقمعها ومنها مقر النقابة الرئيس المغلق بالقوة في صنعاء إضافة إلى المجلس الانتقالي الذي كرس واقعاً تعسفياً خارج القانون والدستور باقتحامه مقر النقابة في عدن وعدد من المؤسسات في سلوك معادٍ للحرية الصحافية والنقابية".
بيان النقابة جدّد مطالبته بالإفراج الفوري عن جميع الصحافيين المعتقلين لدى الميليشيات الحوثية، وعلى رأسهم وحيد الصوفي ونبيل السداوي ومحمد المياحي ووليد غالب عبدالجبار وزياد عبدالعزيز النوم وعاصم محمد وحسن زياد والناشط الإعلامي عبدالمجيد الزيلعي،
إضافة إلى الصحافي ناصح شاكر المعتقل لدى قوات الحزام الأمني بعدن منذ نوفمبر (تشرين الثاني) 2023.
وأكد ضرورة إسقاط أحكام الإعدام السياسية الصادرة في حق عدد من الصحافيين الذين أفرج عنهم قبل أعوام ولم تسقط الأحكام الجائرة والسياسية في حقهم، وإعادة ممتلكات وسائل الإعلام المصادرة ووقف استخدام السلطات القضائية كأداة لترهيب الصحافيين ومحاكمتهم أمام جهات غير مختصة.
ودعا إلى رفع الحجب عن المواقع الإلكترونية المحلية والدولية، ووقف الرقابة على الإنترنت، وإلغاء اللوائح والتعميمات غير القانونية التي تنتهك حرية الصحافة والتعبير، ودعا إلى صرف مرتبات العاملين في وسائل الإعلام الرسمية ومعالجة أوضاعهم ومستحقاتهم.
توفيق الشنواح
صحافي يمني