
ثقافة أدمتها الحرب ولم تخضع للمنظومات الرسمية
مع بدايات الحرب الأهلية، أُغلق المتحف الوطني في بيروت والذي يضمّ أوابد البلاد منذ عصور ما قبل التاريخ حتى تأسيس لبنان الحديث، كونه يقع على خطّ التماس بين الفرقاء المتصارعين، ولم يعد افتتاحه إلا عام 1995.
المعلم التاريخي برمزيته الوطنية ومقتنياته التي تعكس ثقافات المنطقة بأكملها، أصابه خراب كبير بسبب أهوال الطبيعة وقذائف المتحاربين وأفعال التشويه والنهب أيضاً.
يحيل المتحف إلى اختلاف أكبر في النظر إلى مقدّمات تلك الحرب ومآلاتها، يتجاوز السياسة إلى حدود أبعد تتصل بمعاني الحداثة والتعبير عن الهوية، بالنظر إلى ازدهار عاشه اللبنانيون بعد الاستقلال وسط أجواء الحرية وقيم المعاصَرة كما قدّمتها المهرجانات والفرق الموسيقية وصالات عرض الفنون والمسارح والمجلات ودور النشر وغيرها، وتركت تأثيراتها الواسعة ليس فقط داخل حدود لبنان بل على جمهور عربي عريض كان متلقياً لإنتاجها.
تداخلت صورتان لثقافة المدينة المتوسطية؛ الأولى تعود إلى نشوء لبنان الحديث عام 1920 بنزوع ليبرالي، بدت تفاصيله في نمط الحياة اليومية وطبيعة الاقتصاد الناشئ على السياحة والتجارة والمصارف، وصورة أخرى طفت بدءاً من الخمسينيات لحاضرةٍ تحتضن حركات مناهضة للاستعمار والإمبريالية بلافتات قومية واشتراكية خلقت ممارسات ثورية في الأدب والفكر والفن.
التباين الحاد بين الصورتين لم يلغ حقيقة افتراق كلّ منهما عن واقع الثقافة في المحيط العربي وبنية أنظمته الشمولية؛ ملكية وجمهورية.
تأثيرات النكسة
بعد نكسة حزيران/يونيو 1967، واجهت النخب اللبنانية سؤال الهزيمة الذي فرض مراجعات لحقبة ماضية شهدت طفرة ثقافية لتيارات تبنّت رؤى متحرّرة من الأيديولوجيا ورقابة السلطة ورغبةَ التجديد في الفن والأدب،
لكن الملاحظ أن المشاريع التي أطلقتها تلك التيارات توقفت قبل 1975، وإن حاول بعضها الاستمرار لكنه اضطر للتوقّف خلال الحرب الأهلية، أو بعد انتهائها بسنوات قليلة،
وكأن المناخات العامة التي أنتجتها الحرب لم تعد تحتمل التفكير خارج إطار الطوائف والمذاهب وتمثيلاتها في الأحزاب السياسية.
أُقفلت مجلة "شعر" التي أسسها يوسف الخال عام 1970، وأسدل الجدل على مفاهيم الشعر الحديث الذي شغل الثقافة العربية لحوالي 13 عاماً،
وكذلك "حوار" التي أنشأها توفيق صايغ عام 1962 وتوقّفت في عام النكسة، وسلسلة النفائس التي أصدرتها صحيفة النهار بين عاميْ 1967 و1970 وتناولت كتبها قضايا إشكالية عديدة،
بينما حاولت "الندوة اللبنانية" التي أسسها ميشال أسمر 1946 أن تقارب بسجالاتها الفكرية ومنشوراتها بعد الحرب مستقبل الكيانية اللبنانية والتعايش الإسلامي المسيحي، لكن المشروع توقّف برحيل أسمر عام 1984.
أما "دار الفن والأدب" لمؤسستها جانين ربيز التي قدّمت منذ عام 1967 حراكاً فنياً قائماً على التجريب وترابطه مع الأدب والسينما والمسرح وبقية الفنون، فكانت أولى المؤسسات التي دمّرت بعد اندلاع الحرب الأهلية.
لكن أدونيس الذي أصدر مجلة "مواقف" سنة 1968 استطاع الاستمرار في مشروعه حتى منتصف التسعينيات، وبذلك أفل المشهد الثقافي البيروتي الذي استند إلى قيم الليبرالية والانفتاح على الغرب.
اليسار ما قبل الحرب وما بعدها
في الخمسينيات، أسس اليسار اللبناني منصّات ثقافية تبنّت طروحات راديكالية إلى حدّ بعيد، ليبدأ صعوده في العقد اللاحق، ومن أبرزها كانت "مجلة الآداب" التي تصدر عن دار النشر التي تحمل اسمها منذ عام 1953 وتبنّت الالتزام في الأدب والفن،
و"دار الطليعة" التي تأسست سنة 1960 على يد بشير الداعوق الذي نشر أدبيات التحرر الوطني والاشتراكية والماركسية، وأصدر مجلة "دراسات عربية" عام 1964.
ولا يمكن إغفال مجلة "الطريق" التي صدر عددها الأول عام 1941 عن الحزب الشيوعي اللبناني واستقطبت أهم الأسماء العربية خلال الستينيات قبل أن تتوقف نهائياً سنة 2013،
وأيضاً نشرة "لبنان الاشتراكي" التي صدر عددها في سبتمبر/ أيلول 1966 ومنشورات "منظمة الاشتراكيين اللبنانيين" التي أُعلن عن تأسيسها عام 1968، ثم اندمجت المجموعتان في "منظمة العمل الشيوعي" سنة 1970.
لم تنفصل الثقافة عن أيديولوجيا وشعارات التغيير الذي رفعتها هذه المجموعات، بتمثيلها لليسار اللبناني بتعدد توجهاته ولحركة القوميين العرب قبل أن ينخرط معظم المنتمين إليها في فصائل منظمة التحرير الفلسطينية، ويهيمن اليسار على مدينة أصبحت عنواناً للثقافة العربية ببعدٍ أممي،
وبات على المبدع العربي أن يصدر كتاباً أو ينشر في جريدة أو مجلة، أو يشارك في معرض، أو يفوز بجائزة في بيروت ليتجاوز المحلية ويحظى باعتراف يتجاوز الحدود السياسية والجغرافية،
كما قصد عشرات المثقفين العرب العاصمة اللبنانية بوصفها "الحلم الثوري" الذي سعوا لبلوغه.
ووصل الاصطفاف إلى ذروته بين اليسار اللبناني واليمين وانعكس ذلك على حركة الإبداع والفكر مع بروز موجة شعرية جديدة ضمن تنويعات مختلفة، مثّلها وديع سعادة، وعباس بيضون، وبول شاوول، ومحمد العبد الله، ومحمد علي شمس الدين، وشوقي بزيع، وبسام حجار، وشربل داغر، وآخرون.
وتطوّرت أيضاً الكتابة السردية مع صدور روايات إلياس خوري وحنان الشيخ وحسن داود ورشيد الضعيف وإلياس الديري وليلى عسيران وغيرهم تمحورت معظمها حول الحرب في لبنان؛ الثيمة التي قدّمتها أعمال روائية لكتّاب عرب خلافاً لحروب وصراعات عربية أخرى لم تنل حظّها من التناول السردي.
في عين الحرب أيضاً، ظلّت بيروت جسراً لتلاقي المشرق والمغرب العربيين مع إصدار دور نشرٍ جملة من أهم المؤلفات الفكرية والفلسفية آنذاك لكتّاب مثل صادق جلال العظم وهشام شرابي وسمير أمين وجورج طرابيشي ووليد الخالدي وهشام جعيط ومحمد عابد الجابري وعبد الله العروي ومحمد أركون والصادق النيهوم ونصر حامد أبو زيد.
كما تفلتت بيروت في تلك الفترة من رقابة فرضتها جميع السلطات العربية على مثقفيها، ونُشرت إبان الحرب الأهلية كتب تعرضّت للمنع في بلدان مؤلفيها، وارتفع عدد دور النشر إلى نحو خمسمئة رغم هجرة بعضها إلى الخارج.
والأهم من ذلك، أن المراكز البحثية الجادة واظبت على نشر دراساتها وفي مقدمتها مؤسسة الدراسات الفلسطينية مركز الأبحاث الفلسطيني ومركز التخطيط الفلسطيني التي أنئشت في الستينيات بتمويل من رجال أعمال مقربين من منظمة التحرير الفلسطينية،
ثم تأسس مركز دراسات الوحدة العربية عام 1975، ومعهد الإنماء العربي سنة 1976 بتمويل من ليبيا.
وهنا تجدر الإشارة إلى أن معظم المؤسسات الثقافية والصحافية اللبنانية تلقت خلال فترة الحرب تمويلاً فلسطينياً وعراقياً وليبياً بحسب توجهاتها السياسية، بالإضافة إلى دعم من بعض الحكومات الخليجية.
الحلم الثوري: شاعر الملحمة البيروتية
عشرات المثقفين الثوريين العرب من مشارب فكرية وجمالية مختلفة أتوا تباعاً إلى بيروت، وصنعوا مع نظرائهم اللبنانيين منذ الستينيات وحتى نهاية الثمانينيات، مغامرتهم الثقافية التي حملت طموحات كبرى اصطدمت بجدار العنف وانزلاقه إلى الطائفية والمذهبية، وبتنافس إقليمي ودولي على النفوذ في لبنان، وبتدخل خارجي فرض شروطه لإنهاء الاقتتال الأهلي.
مشهد أخير من تلك الحرب لا يُمحى من الذاكرة الثقافية اللبنانية والعربية مثّله محمود درويش الذي عمّدته "عاصمة الثورة" شاعر الجماعة الفلسطينية بقصيدة حملت رؤيا لتاريخ المنطقة العربية وشعوبها، ومازجت بين أساطيرها وبين اليومي العابر والبسيط والمباشر، مع انزياح نحو تأمل فلسفي في الوجود والذات والآخر وماهية الشعر تبلور في فترة لاحقة.
وللمصادفة التاريخية، فإن درويش كتَب نشيده الملحمي "مديح الظل العالي" الذي يرد فيه اسم بيروت 57 مرة، مكثفاً وجع الفلسطينيين لحظة خروج الثوّار من بيروت عام 1982، لكنه ذهب أبعد من ذلك في الإشارة إلى أن المدينة الحلم/ اليوتوبيا تآمرت عليها قوى كثيرة لاغتيالها، إذ يقول: "هذه الصحراءُ تكبر حولنا/ صحراءُ من كل الجهاتْ/ صحراءُ تأتينا لتلتهم القصيدةَ والحساما..".
في الذكرى الخمسين لنشوب الحرب الأهلية اللبنانية، تحضر في البال تساؤلات عن الثقافة التي تدهورت بمستويات مختلفة، لكنها لم تتماهَ تماماً مع المنظومات الثقافية الرسمية في المنطقة حتى اليوم.
محمود منير
صحافي من الأردن.