تركة الجمهورية اليمنية: سردية وطن يتنازع مستقبله
بدأت الجمهورية اليمنية فكرةً تبحث عن مكانها في التاريخ، لا اتحاداً جغرافياً فحسب، بل إرادة تولّدت من رغبة شعبية عميقة في تجاوز الانقسام.
غير أنّ ميلادها جاء على خلاف رغبة بعض القوى الإقليمية التي لم ترحّب بقيام دولة يمنية موحّدة، تمتلك وزناً جيوسياسياً يمكن أن يغيّر معادلات الأمن في محيطها.
ومع ذلك، وُلِدت الجمهورية رغم تحفّظات الإقليم ورغم الأسئلة التي رافقت اللحظة الأولى حول قدرة الوحدة على الصمود أمام توازنات الداخل وضغوط الخارج.
وحين اندلعت حرب 1994، تكشّف مُبكّراً أنّ الوحدة ليست مُحصّنة بما يكفي.
فقد حملت الحرب معها كمّاً كبيراً من الشروخ السياسية والعسكرية التي كانت تتراكم بصمت منذ توقيع اتفاق الوحدة.
لكن الحدث الأكثر تأثيراً كان الدعم الإقليمي الواضح الذي تلقاه خيار الانفصال، وهو دعم لم يكن يستهدف الجنوب بقدر ما كان يسعى إلى إعادة اليمن إلى وضعه المُمزّق القديم، بوصف ذلك الخيار الأفضل لضمان أمن بعض العواصم.
انتهت الحرب بانتصار طرف وخسارة الفكرة، إذ تراجعت الوحدة من مشروع عقد سياسي جامع إلى سلطة المُنتصر، وتحوّل الجنوب إلى منطقة تُدار بعيون القوّة لا بعيون الشراكة.
في هذا المناخ المشحون، أعاد الرئيس الأسبق علي عبد الله صالح تشكيل الجمهورية اليمنية على طريقته.
كانت الدولة تتحوّل تدريجياً إلى شبكة ولاءات، وتُعاد هندسة الجيش باعتباره مناطق نفوذ عائلية وقبلية، بينما تُختزل مؤسّسات الدولة إلى واجهات تخدم مركز القرار.
كان صالح يعيد صياغة الجمهورية من الداخل بحيث تفقد روحها وتتحوّل إلى سلطة تتغذّى على الولاء الشخصي، ما دفع البلاد تدريجياً نحو لحظة اختناق سياسي واجتماعي بدت معها الحاجة للتغيير حتمية.
جاءت ثورة فبراير 2011 بوصفها محاولة لاستعادة الفكرة التي انحرفت. كانت دعوة لإعادة تعريف معنى الدولة والمواطنة،
ولتصحيح المسار الذي انزلق منذ 1994. غير أنّ الثورة سُرعان ما اصطدمت ببنية عميقة من النفوذ، وبقلق إقليمي تجاه أيّ تحوّل ديمقراطي، فضلاً عن هشاشة القوى المدنية وتنازعها.
وهكذا، لم تنجح الثورة في تثبيت لحظتها، وبدل أن تعيد إنتاج الجمهورية، تحوّلت إلى ساحة صراع بين الفاعلين القُدامى والجدد.
وفي لحظة الانهيار تلك، جاء الانقلاب الحوثي وتحالف صالح ليشكّلا الضربة الأشدّ قسوة على الجمهورية.
فقد اتحدّ الرجل الذي قوّض الدولة لعقود مع الجماعة التي رفعت شعار إسقاطها، ما حوّل الانقلاب إلى عملية تفكيك كاملة لما تبقّى من مؤسسات الدولة.
ومع سقوط صنعاء، انهار المركز، ودخلت البلاد في فراغ سيادي مفتوح، صارت فيه الجغرافيا اليمنية ساحة نفوذ مُتحرّكة تتقاطع فيها المصالح المحلية والإقليمية.
دخل التحالف العربي على خطّ الأزمة تحت شعار استعادة الدولة، غير أنّ الممارسة الفعلية قادت إلى مزيد من التجزئة. تعدّدت مراكز القوّة،
وبرزت كيانات مسلّحة تحظى بدعم مباشر، ما جعل الشرعية إطاراً شكلياً يتحرّك من دون قرار. تحوّل الصراع من معركة لاستعادة الجمهورية إلى صراع نفوذ تقوده حسابات الإقليم، ويدفع ثمنه اليمنيون على امتداد الجغرافيا.
وفي هذا السياق، جاء مجلس القيادة الرئاسي بثمانية رؤوس، ليبدو إعادةَ إنتاج لأزمات الماضي في صورة جديدة. لم يكن المجلس مؤسّسة دولة بقدر ما كان هندسة سياسية خارجية لتوزيع اليمن بين القوى المحلية المتنافسة.
وهكذا، عاد حلم تفتيت الجمهورية والوحدة إلى الواجهة، ليس بوصفه خطراً بعيداً، بل مشروعاً يُدار بخطوات متأنيّة وشرعية منقوصة، بينما يُعاد تشكيل اليمن باعتباره وحدة جغرافية تحت وصاية النفوذ الإقليمي.
يقف اليمن اليوم أمام ثلاثة سيناريوهات:
استمرار التفكّك وتحّول البلاد إلى أقاليم نفوذ مستقلة؛
أو انفجار شامل يُعيد رسم الجغرافيا بالقوّة أو وفق تسويات دولية قسرية؛
أو مشروع وطني جديد يولد من خارج النخب التقليدية ويُعيد تعريف الجمهورية على أسس حديثة تستجيب لواقع ما بعد الحرب.
وبين هذه المسارات، يبقى مستقبل الجمهورية اليمنية مرهوناً بقدرة اليمنيين على استعادة روح الدولة من تحت الركام، وإعادة صياغة عقد جديد يتجاوز أخطاء الماضي.
فالجمهورية ليست نصاً سياسياً بل إرادة أمّة تبحث عن مكانها رغم كلّ العواصف.
توفيق الحميدي
محامي وناشط حقوقي يمني.