دارفور مرّة أخرى: تاريخ من النسيان والإنكار
من مفارقات النزاع الجاري في السودان، أنّ محكمة الجنايات الدولية أصدرت، بالتزامن مع استمرار الجرائم الجسيمة التي ترتكبها قوات الدعم السريع في إقليم دارفور غرب السودان، في 6 الشهر الماضي (أكتوبر/ تشرين الأول) حكماً بإدانة علي محمد علي عبد الرحمن، المعروف بعلي كوشيب في 27 اتهاماً متعلقاً بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضدّ الإنسانية ارتكبت في الإقليم بين أغسطس/ آب 2023 وإبريل/ نيسان 2004،
والرجل كان أحد القياديين الرئيسيين في مليشيات الجنجويد، والتي شكلتها ودعمتها حكومة الرئيس السابق، عمر البشير، خلال فترة النّزاع المسلح في دارفور منذ عام 2003، للقتال بالوكالة عنها في الإقليم.
وقد أدمجت هذه المليشيات لاحقاً في الدولة السودانية تحت تأثير الضغط الدولي، وتحوّلها لما تُعرف بقوات الدعم السريع تحت قيادة محمد حمدان دقلو (حميدتي)،
ثم تحوّلت إلى قوة عسكرية موازية للقوات المسلحة الرسمية، وتتبع مباشرة رئيس الجمهورية وليس الجيش، وهو ما أحدث التناقض السياسي والعسكري المستمر في السودان.
يعتبر الحكم ضد كوشيب الإدانة الأولى لمتهمين بارتكاب جرائم جسيمة في دارفور،
لكن هذه القضايا والتحقيقات والإدانات التي قامت بها المحكمة الجنائية الدولية لم تنجح في ردع الأطراف المتحاربة في السودان منذ اندلاع الأزمة الحالية في إبريل/ نيسان 2023، والتي تسببت في مقتل آلاف المدنيين، ونزوح أكثر من عشرة ملايين شخص.
تشمل قائمة المطلوبين للمحكمة الجنائية الدولية كلاً من عمر البشير ووزير الداخلية السابق أحمد هارون، ووزير الدفاع السابق عبد الرحمن محمد حسين.
وقد أغلقت القضية ضد صالح محمد جربو، وهو أحد قياديي حركة تحرير السودان في أكتوبر/ تشرين الأول 2013 بعد مقتله في أعمال مسلحة في دارفور في العام نفسه.
وكان إدريس أبو قردة، وهو أحد القياديين في حركة العدالة والمساواة، وهي إحدى الحركات المسلحة الرئيسية في دارفور، قد مثل طواعية أمام المحكمة في لاهاي،
ثم جرى إطلاق سراحه بعد توصّل الغرفة التمهيدية في المحكمة إلى عدم وجود أدلة كافية لتأكيد الاتهامات ضدّه.
عاد إقليم دارفور إلى الاهتمام الإعلامي الدولي بعد سقوط مدينة الفاشر في قبضة قوات الدعم السريع، الجنجويد سابقاً، وقتلها أكثر من ألفَي شخص في يومين، وارتكابها فظائع تشمل قتل جرحى في مستشفى، وتنفيذ عمليات اغتصاب وعنف جنسي ضد النساء، وقتل للأطفال. ...
ويعدّ الصراع الجاري في دارفور امتداداً للنزاع الذي نشب منذ إبريل/ نيسان 2023 بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع بعد انهيار العملية السياسية الانتقالية التي شهدتها السودان منذ سقوط البشير،
وتسعى قوات الدعم السريع من خلال وجودها المسلّح في دارفور إلى احتواء الدعم العسكري الذي تقدّمه الحركات المسلحة في الإقليم،
وهما حركتا تحرير السودان وحركة العدالة والمساواة للجيش السوداني، والسيطرة على أي امداداتٍ أخرى تقدّم من دول الجوار للجيش السوداني والحركات المسلحة،
ولم يكن لقوات الدعم السريع أن تحقق هذه المكتسبات العسكرية بدون الدعم الخارجي السخي الذي تحصل عليه من الإمارات على نحوٍ أساسي.
لقد أثار الوضع الإنساني في دارفور اهتماماً عالمياً في السنوات التالية لاندلاع النزاع في الإقليم عام 2003. لم يكن هناك اهتمام سياسي أو تغطية إعلامية عربية لما ظلّ يجري في دارفور،
وكانت التغطية إن وجدت ذات طابع سلبي اتهامي في معظمها يحمّل المجتمع الدولي وإسرائيل مسؤولية المؤامرة على السودان.
وقد نشر كاتب هذه السطور مع الباحث السوري رضوان زيادة مقالاً، في أكثر من وسيلة إعلامية عربية ودولية عام 2007، تحت عنوان "أوجه الإنكار العربي لمأساة دارفور: إنها معاييرنا المزدوجة!"،
جاء فيه أنّ "ضعف الانشغال العربي بما يجري في دارفور، على رغم بشاعته، ربما تفسره مركزية صراعات المشرق، وخصوصاً الصراع مع إسرائيل، لدى قطاع عريض من النخب السياسية والثقافية العربية، والتي لم يكتف بعضها بإهمال ما يجري في السودان وإنما حاولت إنكاره".
ولكن نقل شهادات الجرائم التي ارتُكبت في دارفور لم يكن من صنيعة الإعلام الغربي، إذ مثّل تقرير لجنة تقصي الحقائق التابعة للأمم المتحدة، والتي تشكّلت من خبراء دوليين من باكستان وجنوب أفريقيا وغانا، ومنهم الوزير المصري السابق محمد فايق، المصدرَ الأهم في توصيف ما كان يجري في الإقليم،
وجمع أدلة وشهادات حية للضحايا تؤكّد ارتكاب جريمة الإبادة وجرائم ضد الإنسانية تورّطت فيها حكومة الخرطوم ووكلاؤها من مليشيات الجنجويد.
وفي وقت لاحق بعد صدور هذه الوثيقة التاريخية الهامة، قرّر مجلس الأمن إحالة الوضع في دارفور إلى محكمة الجنايات الدولية،
إلّا أن السبب الرئيسي لفشل المحكمة في ردع الأطراف المتحاربة في دارفور وباقي مناطق السودان يرجع إلى عدم قدرتها سنوات طويلة على إنفاذ قرارات التوقيف التي أصدرتها، وعدم رغبة دول كثيرة في التعاون معها لتنفيذ هذه القرارات، ومنهم دول عربية وأفريقية، وعدم تعاون الحكومات السودانية نفسها التي تعاقبت على حكم السودان بعد إطاحة عمر البشير عام 2019.
ومن التناقضات أن جنوب أفريقيا، الدولة التي تنشط حالياً في الساحات الدولية لدعم العدالة الدولية في فلسطين، كانت من الدول التي وفّرت حماية للبشير، ورفضت التعاون مع محكمة الجنايات الدولية.
لا يمكن فصل ما يجري في دارفور والسودان عن تغيّر معادلة توزيع القوى والنفوذ حالياً في النظام الإقليمي العربي منذ سنوات ما بعد حصار ثورات الربيع العربي.
وقد دفعت اليمن وليبيا وسورية في مرحلة سابقة ثمن التنافر الإقليمي، الذي يصعّب من إيجاد حلولٍ سياسيةٍ لهذه الصراعات، ويطيل أمدها في ظل التمكين العسكري والمالي لأطرافه.
تستمر قوات الدعم السريع في السودان اليوم في أعمالها من دون رادع، وفي ظل غطاء سياسي وعسكري خارجي.
ويبدو المجتمع الدولي غير مستعدٍّ للتعامل بجدّية مع نزيف السودان، واحتواء التورط الإقليمي الحالي الذي تكبّد السودان بسببه خسائر باهظة، ما يعيد إلى الأذهان المشاهد المأساوية السابقة للضحايا المدنيين المنسيين في دارفور.
معتز الفجيري
أكاديمي وحقوقي مصري.