"هل النبوة ملكٌ أم رسالة؟: تساؤلات في زمن الجاهلية الجديدة"
إنّ التاريخَ ليس مجردَ حكاياتٍ تُروى، بل هو مرآةٌ عاكسةٌ لحاضرنا، ومِشكاةٌ تضيءُ لنا دروبَ المستقبل. ففي خضمِّ التيه الذي نعيشه، يظهرُ من يدّعي أنه وكيلٌ لله في الأرض، وأنّ له الحقَّ الإلهيَّ في الحكم والسلطة، وأنّ النبوةَ ملكٌ ووراثةٌ تتربَّعُ على عروشها فئةٌ دونَ غيرها.
إنّ هذه العقليةَ ليست وليدةَ اليوم، بل هي امتدادٌ لداءٍ قديمٍ من أمراض الجاهلية الأولى التي كان يعتقدُ أهلُها أنَّ العزَّ والحكمَ مرتبطانِ بالقوةِ الماديةِ والعصبيةِ القبلية. لكنَّ الرسالةَ المحمديةَ جاءت لتهدِمَ هذه الأصنامَ الفكرية، وتضعَ معاييرَ جديدةً للقيادةِ تقومُ على التقوى والإيمانِ والتضحية، لا على النسبِ أو المالِ أو الجاه.
النبوة: رسالةٌ سماويةٌ لا تعرفُ الملك
لقد أرادَ الإسلامُ أن يُفرِّقَ بين النبوةِ التي هي رسالةٌ إلهيةٌ خالصةٌ للناسِ كافة، وبين الحكمِ والسلطةِ التي هي مسؤوليةٌ دنيويةٌ قائمةٌ على العدلِ والكفاءة. فالنبوةُ هبةٌ من الله يختارُ لها من يشاء، والنبيُّ قد يكونُ خائفاً متخفياً، كما كان نبينا محمد صلى الله عليه وسلم في بداية دعوته، حيث عانى هو وأصحابه صنوفَ العذاب والتنكيل. فرَّ بعضُهم إلى الحبشة، بينما احتضنَهم أبناء جلدتنا من الأوس والخزرج في المدينة المنورة، ونصروه وأزروه، فكانوا خيرَ معينٍ له. هذا الاستقبالُ والنصرُ لم يكنْ قائمًا على نسبٍ أو قرابة، بل على الإيمانِ الصادقِ بالرسالة.
أما الملوكُ والسلاطينُ في الجاهليةِ، فقد كانتْ معاييرُهم مختلفة، ولذلك استغربتْ قريشٌ من أنْ يُبعثَ النبيُّ من بينهم وهم سادةُ القوم، فقالوا: "لَوْلَا نُزِّلَ هَٰذَا الْقُرْآنُ عَلَىٰ رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ". والقريتانِ هما مكةُ والطائف، والعظيمانِ هما الوليدُ بن المغيرةِ وعروةُ بن مسعودٍ الثقفي. هذا الاستغرابُ يكشفُ عن عقليةٍ لا ترى العظمةَ إلا في الثراءِ والسلطةِ، لا في القلبِ والعقيدة.
عمر بن الخطاب: قمةٌ عربيةٌ كسرَت أنفَ فارس
وفي هذا السياق، تبرزُ شخصيةٌ عظيمةٌ كعمرَ بن الخطاب، الذي أظهرَ اللهُ بهِ العزَّ للإسلام، كما قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: "اللهمَّ أعزَّ الإسلامَ بأحدِ العُمَرَيْنِ، عمرَ بن الخطاب أو عمرَ بن هشام". ومع إسلامِ عمرَ بن الخطاب، تغيرتْ موازينُ القوى، ونُصرَ الإسلامُ نصراً لم يسبقْ له مثيل. لقد كان عمرُ، رضي الله عنه، قامةً عربيةً أصيلة، أعادَ للعربِ كرامتهم بعد أن كانوا مجردَ أعرابٍ رعاةٍ للإبلِ في نظرِ إمبراطوريتي فارسَ والروم. إنه هو الذي مرّغَ أنفَ فارسَ في التراب، وأذلَّها بعد أن كانتْ تظنُّ نفسها لا تُقهر.
إنّ من الطبيعيِّ أن يكرهَ الفرسُ عمرَ بن الخطاب، لأنه رمزٌ للفتوحاتِ التي أزالتْ ملكَهم وأنهتْ أسطورتَهم. لكنْ الغريبَ والمثيرَ للسخريةِ والشفقةِ هو أنْ نجدَ من يدّعي العروبةَ والإسلامَ من أبناءِ جلدتنا يسبُّ عمرَ وأبا بكر، ويحتقرُهم، ويؤلفُ فيهم الأكاذيبَ والروايات. هؤلاءِ ليسوا إلا عوالقَ وأدواتٍ في يدِ الصفويةِ الإيرانية، يردّدون ما أملِيَ عليهم من أحقادٍ دفينة.
إنَّ هذه الظاهرةَ ليستْ مجردَ خلافٍ دينيٍّ أو مذهبي، بل هي هجومٌ سافرٌ على هويتِنا القوميةِ والعربية. فإذا لم نُحبَّ عمرَ من منطلقٍ دينيٍّ، فلنُحبَّه من منطلقٍ قوميٍّ، لأنه أعادَ للأمةِ العربيةِ عزَّها ومجدَها، وجعلَ منها قوةً لا تُقهر.
متى سنستفيقُ؟
لقد ابتُلينا في اليمنِ بعقليةِ الجاهليةِ الأولى، بعصرِ تقديسِ الأشخاصِ وعبادةِ الأوثان، التي تعتقدُ أنَّ الحقَّ حكرٌ على فئةٍ دونَ غيرها. فمتى سنستفيقُ ونركبُ مركبَ التطورِ والتقدم؟ لقد كان أسلافُنا أولَ من علَّمَ الناسَ التجارةَ والصناعةَ والملك، وكانوا أهلَ حضارةٍ عظيمةٍ سبقتْ الأمم. ولكنْ، للأسف، أوصلَنا هؤلاءِ "العلوج" إلى ما نحنُ عليه اليوم من تخلفٍ وفقرٍ وتناحر.
إنّ الشعبَ اليمنيَّ الذي يندفعُ إلى جبهاتِ القتالِ تحتَ تخديرِ الولايةِ، يجبُ أن يُدركَ أنَّ هؤلاءِ ليسوا وكلاءَ الله في الأرض، بل هم وكلاءُ الفوضى والدمار. إنَّ هؤلاءِ ليسوا إلا لقطاءَ الفرس، الذين لا همَّ لهم إلا إشعالَ الفتنةِ وتفكيكَ الأمة. فليعلمْ أبناءُ شعبنا أنَّ الولايةَ الحقّةَ هي ولايةُ العقلِ والحكمةِ والإيمان، لا ولايةَ السلاحِ أو النسب.