
إعادة تعريف الدولة في اليمن من منظور الحق في الحياة
أعتقد أنه في لحظات الانكسار الكبرى التي تتشظّى فيها صورة الوطن إلى شظايا من فقدان الأمان وانحسار المعنى، تظل الحياة قادرة على أن تفاجئنا- على نحو ما- بومضات إنسانية تكسر منطق الخراب.
هناك، في قلب مدينة أثقلتها الحرب حتى صار الحزن، على نحو لا يمكن تجاهله، ملمحاً ثابتاً من ملامحها، يطلّ مشهد مختلف؛ مشهد يقول إن الرهان على الإنسان قبل السياسة، وعلى الرحمة قبل الشعارات، ليس ضرباً من المثالية، بل هو شرط النجاة الوحيد.
وعليه أتصور أن الفعل الإنساني حين يتحرر من قيد المصلحة الضيقة، يتحول إلى قوة مقاومة، لا ضد الموت وحده، بل ضد كل ما ومن يحاول أن ينتزع من البشر حقهم في الأمل.
ومن هذا الفضاء النادر، تتبدّى لي قصة مستشفى الأمير محمد بن سلمان في عدن، لا كحكاية طبية فحسب، بل كبرهان على أن البنية التحتية للرحمة قد تكون أقوى من خرائط الانقسام، وأن ترميم القلوب- حرفياً ومجازياً- قد يكون أعظم أشكال السياسة التي نفتقدها.
في مدينة مثل عدن أنهكتها الحرب حتى صار الألم جزءاً من تفاصيل يومها، ينبثق مستشفى الأمير محمد بن سلمان في العاصمة الموقتة للجمهورية اليمنية كحضور لا يكتفي بمداواة الجسد، بل يرمم في اعتقادي ما تصدّع في الروح.
رسالة المواطن صدام الجنيد، الخارج من محنة أن يرى قلب طفله يئن بثلاثة ثقوب، ليست مجرد حكاية شفاء، بل هي في تصوري شهادة على أن العطاء حين يتجسّد في مؤسسة راسخة، يتحول من فعل عابر إلى معنى متجدد.
يقول صدام الجنيد في رسالته المتداولة في موقع التواصل الاجتماعي "إكس"، "من قلب المعاناة، ومن بين أيام كانت أثقل من الجبال على كاهلي كأب، ولديّ طفل يئن من وجع القلب بثلاثة ثقوب تنزف معه الأمل، ظهر أمامي صرح طبي لم يكن مجرد مستشفى، بل كان حياة جديدة تهبها الأقدار على يد أناس اختاروا أن يكونوا جسور رحمة.
مستشفى الأمير محمد بن سلمان في عدن، لم يكتفِ بعلاج طفلي، بل أعاد إليه الحياة، وأعاد إلى ثغري الابتسامة التي غابت طويلاً، وأعاد إلى بيتي السعادة التي كدت أن أفقدها للأبد".
إن ما حدث في غرفة العمليات، حيث استعاد الطفل نبضه، يتجاوز حدود الطب كاختصاص، ليبلغ في اعتقادي مرتبة الرمزية التي تذكّر بأن الإنسان يمكن أن يكون محور السياسة إذا اختيرت له الأولويات الصحيحة، وأن الجسور بين القلوب لا تُبنى إلا على أساس الرحمة والكفاءة معاً.
أتصور أن هذا الصرح، في سياقه اليمني الممزق، يمثل أكثر من معادلة علاجية ناجحة؛ إنه إعلان صامت عن إمكانية وجود فضاء خارج خرائط الاستقطاب، حيث لا تُقاس الهوية بلون الراية بل بقدرة اليد على إنقاذ الحياة.
ومن هذه الزاوية، تتسع تجربة أسرة الجنيد لتصبح مثالاً محفزاً نفسياً واجتماعياً، يلامس المرضى المنتظرين وأسرهم، ويعيد تعريف الأمل كقوة مضادة لانكسار الواقع.
ولعل أعظم ما يمكن أن يُقال في حضرة هذا المستشفى، ومن يديره، أنه يثبت أن البنية التحتية للرحمة لا تُشيّد بالحجارة والمعدن فقط، بل بإرادة إنسانية ترفض أن تترك مريضاً خلف أبواب الإهمال، وتحمي الحق في الحياة من أن يتحول إلى ترف، في زمن لم يعد فيه الترف إلا امتلاك فرصة للنجاة.
يكتب صدام الجنيد بحروف نابضة بالامتنان "شكراً بحجم السماء للسعودية، حكومة وشعباً، على هذا العطاء الذي لا يعرف الحدود، وعلى هذه اليد البيضاء التي مسحت دموع الكثيرين في وطني.
ولعدن الحبيبة، التي احتضنت هذا المستشفى كما تحتضن الأم وليدها، وحمته من رياح الصراعات والانقسامات، لتجعله بيتاً آمناً يتسع لكل أبناء الوطن شمالاً وجنوباً، نقول: أنتِ مدينة القلب الكبير، والملاذ الذي لا يخذل أحداً".
إن ما يقدمه مستشفى الأمير محمد بن سلمان في عدن، في زمن ينهش فيه الخراب جسد الدولة، لا يمكن قراءته كفعل طبيّ معزول؛ بل هو موقف إنساني ينطوي على دلالة سياسية صامتة.
ففي ظل غياب البنية المؤسسية القادرة على حماية المواطن ورعايته، تصبح مثل هذه المبادرات أكثر من استثناء عابر؛ إنها بمثابة اختبار صريح لمدى قدرتنا على إعادة تعريف الدولة من منظور الحق في الحياة، قبل أي اعتبارات أيديولوجية أو حسابات نفوذ.
وهنا، يصبح العلاج رسالة مقاومة، والمشرط أداة ترميم لا للجسد وحده، بل لمعنى الانتماء ذاته.
إن هذه القصة، بما تحمله من تفاصيل الألم والتحول، تذكّرنا بأن الأوطان لا تُبنى بالخطب وحدها، ولا بالحدود المرسومة على الورق، بل بما تتيحه الحياة اليومية من لحظات إنقاذ وتضامن.
فالرحمة، حين تُمارَس في مؤسسات فاعلة، قادرة في اعتقادي على أن تستعيد ما فقدته السياسة من شرعية في قلوب الناس.
وفي زمن تتصدع فيه القيم أمام صراع القوى، تبقى القدرة على إنقاذ حياة إنسان واحد أبلغ من كل الشعارات، وأقرب إلى جوهر الدولة التي نبحث عنها؛ دولة تنحاز للفعل الإنساني قبل كل شيء، وترى في شفاء قلوب مواطنيها الشرط الأول لشفاء قلبها هي.
سامي الكاف
صحافي وكاتب يمني