
تحرك سفن بريطانيا إلى البحر الأحمر... ما هي الأهداف الاقتصادية؟
الرأي الثالث - وكالات
بينما تتكثف التهديدات في الخليج العربي والبحر الأحمر، وتواصل حركة الملاحة تراجعها بفعل الصراعات الإقليمية، تسجّل الممرات البحرية تغيرًا لافتًا في الأولويات الدولية.
ففي تقرير صادر عن منصة "سيغنال أوشن" بتاريخ 18 يونيو/حزيران 2025، يظهر أن مضيق هرمز يواصل حركته بشكل طبيعي نسبيًا، خلافًا للبحر الأحمر ومضيق باب المندب الذي بات يعكس أكثر مسارات العالم هشاشة أمام الجغرافيا السياسية المهددة في هذه المنطقة.
وسط هذا التوتر، تدفع بريطانيا بقوتها البحرية إلى المنطقة، في خطوة تعكس حجم التداخل بين الأمن البحري وتوازنات السياسة والاقتصاد.
في مطلع يونيو/حزيران الجاري، أطلقت البحرية الملكية البريطانية عملية "هايماست"، التي كان من المقرر أن تتركّز في المحيطين الهندي والهادئ، لتعزيز انتشار لندن البحري في سياق تحالفات غربية ممتدة.
لكن عبور حاملة الطائرات "برينس أوف ويلز" والفرقاطة "ريتشموند" قناة السويس يوم 3 يونيو الجاري، لم يكن عبورًا عاديًا.
فبين الهجمات الحوثية المكثفة والتوتر المتصاعد بين إيران وإسرائيل وانعكاساته على الملاحة في الخليج العربي، وجدت بريطانيا نفسها مضطرة لتعديل أهداف العملية وإعادة توجيه بوصلة القوة البحرية نحو البحر الأحمر، حيث تتقاطع خطوط التجارة العالمية مع خطوط النار.
وفي 29 إبريل/نيسان، نفذت القوات الجوية الملكية البريطانية ضربات جوية على منشآت لتصنيع الطائرات المسيّرة التابعة للحوثيين قرب صنعاء، ضمن عملية مشتركة مع الولايات المتحدة، وفق ما نُشر على موقع وزارة الدفاع البريطانية في 30 إبريل 2025.
أمن الملاحة وكلفة تمويله
تمضي بريطانيا في توسيع حضورها البحري مدفوعةً ليس فقط بالاعتبارات الأمنية، بل بحسابات اقتصادية دقيقة تتصل بأحد أهم شرايين التجارة العالمية. فالطريق الذي تمر عبره قرابة 15% من التجارة البحرية، وفق بيانات المنظمة البحرية الدولية، بات في قلب الأولويات العسكرية البريطانية.
غير أن هذا الانخراط، رغم طابعه الاستراتيجي، يُموّل بالكامل من الخزينة العامة، في وقت تعاني فيه البلاد من ضغوط اقتصادية داخلية متزايدة.
وبينما تتكفل لندن بحماية خطوط إمداد تمر عبر الخليج ومصر والسودان، يبرز تباين واضح في المقاربات الإقليمية.
ففي حين تُظهر بريطانيا مستوى عاليا من الشفافية في الإفصاح عن حجم الإنفاق العسكري، لا تزال الميزانيات الدفاعية العربية رغم ضخامتها محاطة بالغموض، خصوصًا فيما يتعلق بتخصيصاتها لحماية الممرات البحرية.
إنفاق بريطاني شفاف
بشفافية محسوبة، تعلن الحكومة البريطانية تفاصيل إنفاقها الدفاعي المرتبط بتأمين الملاحة الدولية في البحر الأحمر ومضيق هرمز، حيث بلغت ميزانية الدفاع للعام المالي 2023/ 2024 نحو 53.9 مليار جنيه إسترليني، وفق ما ورد على موقع وزارة الدفاع البريطانية،
لترتفع إلى 56.9 مليار في العام 2024/ 2025، مع تخصيص 2.2 مليار جنيه للمهام الخارجية وفي مقدمتها العمليات البحرية في الشرق الأوسط.
وتشمل هذه النفقات تشغيل حاملات الطائرات والمدمرات، التي تتراوح كلفة تشغيل الواحدة منها بين 13.5 و25 مليون جنيه سنويًا، بالإضافة إلى الصواريخ الدفاعية من طراز "كام" و"سي سبارو"، التي تتراوح كلفة الواحد منها بين مليون ومليوني جنيه، بحسب تقارير برلمانية رسمية.
وفي مايو/أيار الماضي، طلبت وزارة الدفاع تمويلاً طارئًا بقيمة 3.2 مليارات جنيه لتغطية التجاوزات الناجمة عن العمليات الجارية، بحسب ما نشرته لجنة الدفاع في مجلس العموم البريطاني.
ضبابية المشهد العربي
في المقابل، يظل المشهد العربي محاطًا بضبابية لافتة رغم الإنفاق العسكري المرتفع. فبحسب معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام (SIPRI)، بلغ حجم الإنفاق العسكري في السعودية عام 2024 نحو 80.3 مليار دولار، ما يجعلها في المرتبة الخامسة عالميًا، دون توفر بيانات محددة حول ما يُخصّص لحماية الملاحة البحرية. أما الإمارات،
فبحسب موقع وزارة التجارة الأميركية (Trade.gov)، أنفقت نحو 19.8 مليار دولار على الدفاع في عام 2020،
فيما تُظهر بيانات منصة "ReportLinker" أن الإنفاق ارتفع إلى 32.5 مليار دولار في 2023، مع توقعات بوصوله إلى 37.4 مليار بحلول 2028.
ومع هذا التصاعد اللافت، تغيب الشفافية بشأن التوزيع القطاعي لهذه الموازنات، وخصوصًا ما يخص تأمين الممرات البحرية الاستراتيجية التي تمر بمحاذاة سواحل هذه الدول.
استثمارات الخليج في بريطانيا
وسط التكاليف المتصاعدة التي تتحملها بريطانيا لحماية طرق الملاحة في البحر الأحمر ومضيق هرمز، يبرز بُعد اقتصادي موازٍ غالبًا ما يُغفل عند تقييم التحركات العسكرية البريطانية في المنطقة.
فهذه التكاليف لا تأتي بمعزل عن علاقات استراتيجية أوسع مع دول الخليج، تُترجم على الأرض باستثمارات سيادية ضخمة تضخها صناديق خليجية في شرايين الاقتصاد البريطاني.
ففي إبريل/نيسان 2025، أكد وزير الخارجية البريطاني ديفيد لامي، خلال زيارته إلى سلطنة عُمان ودولة قطر، أن علاقة بلاده بالخليج تقوم على ثلاث ركائز: "الأمن، والاستقرار، والتجارة"، حسب ما نُشر على الموقع الرسمي للحكومة البريطانية.
وتجلّت هذه الشراكة عمليًا من خلال استحواذ صندوق الاستثمارات العامة السعودي (PIF) على 15% من أسهم شركة "هيثرو إيربورت هولدينغز" في صفقة بلغت قيمتها نحو 4.1 مليارات دولار، وفق ما أوردته وكالة "رويترز" وشركة "فيروفيال" الإسبانية.
وفي موازاة ذلك، وسّعت هيئة الاستثمار القطرية (QIA) من استثماراتها داخل المملكة المتحدة، من خلال امتلاك حصص في متاجر "هارودز" ومنطقة "كناري وارف" ومقر شركة "شل" في لندن،
إضافة إلى حصة في مطار هيثرو، حسب تقارير صدرت عن "فايننشال تايمز" و"رويترز".
وتُسهم هذه الاستثمارات في دعم الاقتصاد البريطاني على مستويين؛ فهي من جهة تُعزز الناتج المحلي وتوفر فرص عمل ومن جهة أخرى تُخفف من الضغط على المالية العامة، ما يمنح الدولة هامشًا أوسع في تمويل التزاماتها الأمنية والعسكرية الخارجية.
ورغم أن هذه العوائد لا تُستخدم مباشرة في تمويل العمليات العسكرية، فإن أثرها غير المباشر يظهر جليًا في قدرة لندن على المحافظة على حضورها العسكري في مناطق استراتيجية كالبحر الأحمر.
تأمين الممرات والتجارة
وبينما تنعكس هذه الشراكة على شكل استثمارات خليجية استراتيجية في بريطانيا، فإنها تُعبّر في جوهرها عن علاقة أمنية اقتصادية أوسع.
وفي هذا السياق، يوضح أستاذ مساعد في دراسات الشرق الأوسط، كريستيان هندرسون، أن "الوجود العسكري البريطاني في الخليج ليس تطورًا جديدًا بل امتداد لعلاقة استراتيجية راسخة منذ عقود بين المملكة المتحدة ودول الخليج".
ويضيف أن "بريطانيا، إلى جانب علاقاتها التجارية، ملتزمة بتأمين أحد الممرات البحرية الأساسية لنقل النفط وسلع استراتيجية أخرى عبر البحر الأحمر، ضمن ترتيبات أمنية طويلة الأمد".
ويلفت إلى أن "هذا الدور لا ينفصل أيضًا عن علاقات بريطانيا الوثيقة بالولايات المتحدة، ما يجعل الوجود العسكري البريطاني عنصرًا ثابتًا في إطار التنسيق الغربي الأوسع".
ضمن سياق إقليمي معقد، تتحرك بريطانيا بحسابات أمنية واقتصادية متشابكة، في منطقة لم تعد الممرات البحرية فيها مجرد قنوات لعبور السلع، بل ساحات لتثبيت التوازنات ورسم الخرائط الاستراتيجية. ومن البحر الأحمر إلى مضيق هرمز، تختلط الاعتبارات العسكرية بالمصالح الاقتصادية، في مشهد تتقاطع فيه الأدوار بين قوة غربية تدفع الثمن، ودول إقليمية لا تزال تتلمس موقعها في معادلة الأمن المشترك.