
النكبة المستمرة ومشروع تفكيك الشرق الأوسط
تعد نكبة فلسطين إحدى أبرز القضايا التي شكّلت تاريخ وجغرافيا الشرق الأوسط الحديث، ليس لأبعادها الإنسانية والسياسية فقط، بل أيضًا كونها نتاج مشروعٍ استعماريٍ طويل الأمد، استهدف تفكيك المنطقة وإعادة تشكيلها بما يخدم مصالح القوى الاستعمارية الكبرى.
وتمكن قراءة تطورات القضية الفلسطينية وسياقها الإقليمي في إطارٍ أوسع لما يعرف بمشروع "تفكيك الشرق الأوسط"، وهو مشروعٌ متعدد الأوجه، يرتبط بالتدخلات الخارجية، وتأجيج النزاعات الداخلية، وإعادة رسم الخريطة السياسية للمنطقة.
الجذور التاريخية
بدأت ملامح احتلال فلسطين بالظهور منذ أواخر القرن التاسع عشر، حين ظهرت الحركة الصهيونية حركةً سياسيةً تهدف إلى إقامة "وطنٍ قوميٍ لليهود" في فلسطين، مدعومةً بتأييدٍ من القوى الأوروبية، خاصّةً بريطانيا.
وقد مثّل وعد بلفور عام 1917، الذي قدمه وزير الخارجية البريطاني آرثر بلفور إلى اللورد روتشيلد، محطةً محوريةً في تاريخ فلسطين،
إذ أعلنت بريطانيا دعمها الرسمي لإقامة "وطنٍ قوميٍ للشعب اليهودي" في أرض فلسطين، رغم أن سكانها في ذلك الوقت كانوا من العرب المسلمين والمسيحيين بنسبةٍ تزيد عن 90%.
بعد انهيار الإمبراطورية العثمانية، آل حال فلسطين تحت نير الانتداب البريطاني، الذي عمل على تسهيل الهجرة اليهودية المنظمة إلى الأرض، وتوفير البنية التحتية السياسية والاقتصادية للمشروع الصهيوني.
وعقب نهاية الحرب العالمية الثانية، وفي ظلّ تصاعد التوترات، صدر قرار الأمم المتّحدة رقم 181 عام 1947 بتقسيم فلسطين إلى دولتين: يهودية وعربية.
الاحتلال والتوسع
لم يقف المشروع الصهيوني عند حدود قرار التقسيم، فمنذ عام 1948، خاضت إسرائيل سلسلةً من الحروب ضدّ الدول العربية، مستغلةً، في كلّ مرّة، نتائج الحرب لتوسيع رقعتها الجغرافية.
وبلغ هذا التوسع ذروته عام 1967، حين احتلت إسرائيل كامل الضفّة الغربية، بما في ذلك القدس الشرقية، وقطاع غزّة، وسيناء المصرية، ومرتفعات الجولان السورية.
رسّخت إسرائيل منذ ذلك الحين سياسات تهويد الأراضي، وبناء المستوطنات، وفرض الأمر الواقع بالقوّة العسكرية، في تجاهلٍ صارخٍ للقانون الدولي وقرارات الأمم المتّحدة.
في السياق، جاءت اتّفاقيات "السلام" مثل كامب ديفيد (1978)، وأوسلو (1993)، ووادي عربة (1994)، لتُشكّل أدواتٍ وظيفيةً لمزيدٍ من تفكيك الإجماع العربي، وتحويل القضية الفلسطينية من قضية تحررٍ قوميٍ إلى نزاعٍ ثنائيٍ بين طرفين غير متكافئين.
فبينما تستمر إسرائيل في الاحتلال والاستيطان والاعتداءات، يجرّد الفلسطينيون من حقوقهم الأساسية تحت ذرائع "العملية السلمية" و"الحوار السياسي".
مشروع تفكيك الشرق الأوسط
ترتبط القضية الفلسطينية ارتباطًا وثيقًا بما يُعرف بمشروع "تفكيك الشرق الأوسط"، أو إعادة تشكيله، وهي استراتيجيةٌ تبنّتها قوىً غربيةً، خاصّةً الولايات المتّحدة، منذ مطلع القرن الحادي والعشرين.
تقوم هذه الاستراتيجية على مبدأ "الفوضى الخلاقة"، ما يعني إشعال النزاعات الداخلية والطائفية والعرقية لتفكيك الدول القومية إلى كياناتٍ صغيرةٍ وضعيفةٍ، يسهل التحكم فيها، وتُستخدم أدواتٍ لخدمة المصالح الاستعمارية الحديثة، وعلى رأسها أمن إسرائيل، وموارد الطاقة.
تجلّت هذه السياسة بوضحٍ في غزو العراق عام 2003، الذي أدى إلى انهيار الدولة ومؤسساتها، وتفجّر التوترات الطائفية والعرقية.
ثم جاءت موجات "الربيع العربي" عام 2011، التي تحوّلت في العديد من الدول إلى فوضى وحروبٍ أهلية، كما في سورية، واليمن، وليبيا.
وفي خضم هذه النزاعات، تراجعت القضية الفلسطينية إلى الهامش، بينما كانت إسرائيل تواصل مشروعها الاستيطاني، وتحظى بتطبيعٍ غير مسبوقٍ مع عددٍ من الدول العربية.
التطبيع والمشهد الإقليمي الجديد
في السنوات الأخيرة، شهدت المنطقة موجة تطبيعٍ جديدةً بين إسرائيل وعدد من الدول العربية، من خلال "اتّفاقيات إبراهيم" التي رعتها الولايات المتّحدة في عهد الرئيس دونالد ترامب.
ورغم تسويق هذه الاتّفاقيات على اعتبارها خطواتٍ نحو "السلام"، فإنّ سياقها كان تجاهلاً لكامل الحقوق الفلسطينية، وتكريسًا لحالة الهيمنة الإسرائيلية على المنطقة.
كذلك يُنظر إلى هذه الاتّفاقيات على أنّها جزءٌ من عملية تطويع المنطقة سياسيًا واقتصاديًا، تحت مسمى "الشرق الأوسط الجديد"، الذي تحل فيه إسرائيل محل المركز، وتُعاد صياغة الولاءات والتحالفات بعيدًا عن القضية الفلسطينية.
المقاومة والصمود
لا تزال القضية الفلسطينية حيّة في وجدان الشعوب العربية والإسلامية، وفي ضمير أحرار العالم رغم كلّ محاولات التفكيك والاحتلال.
وقد أثبتت المقاومة الفلسطينية، سواءً عبر النضال الشعبي أو الكفاح المسلّح، قدرتها على فرض معادلاتٍ جديدةٍ، كان آخرها ما ظهر في معارك غزة، والانتفاضات الشعبية في الضفّة الغربية، والقدس، ومدن الداخل الفلسطيني.
كذلك أظهرت التحولات العالمية، وازدياد الوعي بقضايا التحرر، أن كفاح الشعب الفلسطيني ليس قضيةً محليةً، بل جزءٌ من نضالٍ عالميٍ ضدّ الاستعمار والعنصرية.
كما تزايدت حملات مقاطعة إسرائيل أكاديميًا واقتصاديًا، خصوصًا في الجامعات الغربية، ما يشير إلى تصدع السردية الصهيونية على المستوى الدولي.
احتلال فلسطين ليس مجرد قضية صراع حدودٍ أو نزاعٍ سياسيٍ، بل هو امتدادٌ لمشروعٍ استعماريٍ يسعى إلى تفكيك الشرق الأوسط، وإعادة تشكيله بما يخدم مصالح القوى الكبرى، ويضمن التفوق الإسرائيلي.
غير أن وعي الشعوب، وصمود الفلسطينيين، والتحولات العالمية، تفتح آفاقًا جديدةً للمقاومة، ولمشروعٍ تحرريٍ بديلٍ يُعيد للمنطقة وحدتها واستقلالها.
تامر خرمه