ثلاثون عاماً من ضياع الفرص!!
لا يدرك الكثيرون أن الكوارث التي نعيشها اليوم لم تظهر فجأة، بل هي حصيلة طبيعية لتراكمات من الفوضى والفشل الممتد عبر عقود من الزمن.
في تلك السنوات، لم تُبْنَ دولة حقيقية ولم تُؤَسَّس مؤسسات راسخة؛ بل ظل كل شيء مرتبطاً بأشخاص، وما إن غابوا حتى انهارت مايطلق عليه شبه الدولة على جميع المستويات.
وحتى اليوم، لم نتعلم أنّ غياب الرؤية والمشروع الوطني يحرمنا من تأسيس بلد المؤسسات القادر على النمو وتحقيق الأحلام،
رغم أن تجربة إعادة التدوير لنفس الوجوه في اليمن أثبتت ذلك الفشل والكوارث مراراً وتكراراً ، ولازلنا نتخندق مع هذا وذاك ونقول "خينة شيصلح هذه المرة".
ولتوضيح الصورة، لنأخذ قلماً وورقة ونحسب معاً خسائر ثلاثة عقود ضائعة لنرى كيف فقدت القيادات اليمنية البوصلة، ومارست العبث حتى انفجرت اليمن من جميع النواحي،
بينما دول كانت تشاركنا الفقر أو حتى أسوأ حالاً، تمكنت من تحقيق قفزات في التنمية والنهوض.
فإثيوبيا على سبيل المثال، كانت أفقر من اليمن، تعاني حروباً أهلية ومجاعات، لكنها تحولت اليوم من دولة معدمة إلى قوة في البنية التحتية.
ففي عام 1994 كان الناتج المحلي الإجمالي لإثيوبيا نحو 8 مليارات دولار، أي أقل بأربع مرات من اليمن آنذاك.
أما اليوم فقد بلغ اقتصادها 138 مليار دولار، أي ما يعادل 6 إلى 7 أضعاف اقتصاد اليمن الحالي.
دفعت إثيوبيا مجتمعها نحو مشاريع ضخمة، منها بناء واحد من أكبر المطارات في أفريقيا بتكلفة 10 مليارات دولار وطاقة استيعابية 100 مليون مسافر سنوياً.
وأسست مؤسسات طيران ضخمة، إذ يمتلك أسطول الخطوط الجوية الإثيوبية 130 طائرة حديثة، بينما اليمن يمتلك بالكاد خمس طائرات فقط، رغم أن عددها كان قبل عقود أكبر بثلاثة أضعاف تقريباً.
وفي مجال الطاقة، تقترب إثيوبيا من إنتاج 20 ألف ميغاواط، منها 8,000 ميغاواط للتصدير، أي أكثر من ضعف احتياجات اليمن كلها من الكهرباء؛
بينما نحن، وبعد عقود من الحديث عن الطاقة النووية أو النظيفة أو الهيدروجين، لم نجنِ سوى مزيد من الخطط والأحلام، وانتهى المطاف بشراء كل فرد لمولّد كهرباء صغير.
عوامل نجاح إثيوبيا في النمو مقارنة باليمن تمثلت في الاستقرار السياسي والإصلاحات الوطنية، وفي ايجاد الكفاءات الحقيقية، وفي الاهتمام بالتعليم كبوابة للمستقبل وصناعة كفاءات وطنية،
مما خلق بيئة ملائمة للاستثمار والتنمية، في حين ظل وسيظل يعاني اليمن من الارتجال والمحسوبية والشللية والصراعات المستمرة وانعدام الاستقرار.
اثيوبيا انطلقت بسبب الاستثمار في البنية التحتية والزراعة، بينما ظل وسيظل يعاني اليمن من الفساد وضعف الاستثمار في هذه القطاعات بسبب السلطات القائمة.
اثيوبيا امتلكت رؤية تنموية شاملة ركزت على الابتكار والتنمية المستدامة كزراعة عشرات مليارات الأشجار لزيادة الاستدامة، على عكس اليمن الذي يفتقر إلى رؤية تنموية واضحة ومستقرة والكل في المشهد ومن عقود مجرد شقاة باليومية.
وإذا أردتم مثالاً أكثر قسوة يدلل على حجم الخلل الذي نعانيه، أنظروا إلى رواندا، فقد خرجت في 1994 من رماد الإبادة الجماعية، وكان نصيب الفرد من الدخل الوطني 235 دولاراً سنوياً، مقارنة بـ1,700 دولار للفرد في اليمن حينها.
اليوم، دخل رواندي واحد يعادل دخول ثلاثة يمنيين. وأطلقت رواندا مؤخراً مشروع "مدينة كيغالي للابتكار" بقيمة 300 مليون دولار، يضم أربع جامعات كبرى ومساحات للشركات الناشئة ويوفر 50 ألف فرصة عمل، بهدف الوصول إلى مستوى الدخل المتوسط بحلول 2030.
وفي دول مثل غينيا وبوركينا فاسو، نجد أيضاً نماذج نجاح في التنمية، فغينيا تشيّد ميناءً عميق المياه ضمن مشروع "سيماندو" العملاق ليكون مركزاً اقتصادياً للمنطقة،
أما بوركينا فاسو فقد دشّنت مشروع تحديث النقل الحضري باستيراد أول دفعة من 530 حافلة جديدة، مما ساهم في تحسين حياة المواطنين وخلق فرص عمل جديدة.
بينما ظل اليمن يراوح مكانه ثلاثين عاماً، استطاعت دول أفقر بكثير أن تطرح رؤى واضحة وجريئة وتستثمر في المطارات، وشبكات الكهرباء، والموانئ، ومدن الابتكار.
الفارق أن القيادات هناك حوّلت الأزمات إلى فرص، أما اليمن فقد أضاع عقوداً كان يمكن أن تكتب قصة نجاح وطنية. والسؤال هنا، ما هو الحل؟
الإجابة ليست طلاسم أو معجزات؛ بل الحل يبدأ بوضع رؤية وطنية واضحة تُحفّز الجميع للعمل نحو مستقبل أفضل، ويتحقق ذلك من خلال بناء مؤسسات دولة قوية ومستقلة عن الأشخاص.
حتى في زمن الأزمات والصراعات، يجب الاستثمار - ولو بالقليل الممكن - في التعليم، لإبعاد الشباب عن دوائر النزاع، وأن نعمل على تطوير البنية التحتية تدريجياً ولو في مدينة بعد مدينة، إلى جانب تعزيز الاقتصاد مع التركيز على الابتكار وإشراك المجتمع في صنع القرار.
اليوم، اليمن بحاجة إلى قيادات تتحلى بالمسؤولية وتحوّل التحديات إلى فرص حقيقية للتنمية والنهوض.