
الأغنية السورية الساخرة... طريقة مقاومة في زمن الخوف
السخرية نوعٌ من مقاومة العجز الذي يشعر به الإنسان أمام قوى أكبر من قدرته على السيطرة، وهي طبعٌ أصيل في تكوين البشر وفلسفتهم الخاصة للحياة، والفن الساخر بمفهومه البسيط واحدٌ من أساليب التعبير، ينشط بشكلٍ أساسي في فترات الاستبداد السياسي والتخلف الأخلاقي للمجتمع.
بالرغم من تعدد التجارب السورية على مدى عقودٍ في هذا الحقل إلا أننا لا نجد هويةً واضحةً للأغنية السورية الساخرة، فكيف يقرأ روادها واقعها وتأثيرها في تشكيل الوعي الجمعي؟
يرفض الفنان السوري نوار أحمد تعميم صفة السخرية كونها أحد أساليب الأغنية الناقدة التي تنقسم بطبيعتها إلى الأغنية الواقعية التي تحاكي ظاهرةً ما بكلماتٍ وألحانٍ قد تكون حزينةً،
بينما الأغنية الساخرة تقوم على مبدأ "شرّ البلية ما يضحك، أي الكلمة الموجعة التي ترنّ فتطرب وتجرح"، وهي الأكثر انتشاراً في ثقافتنا، يستوردها الجمهور السوري من أعمال زياد الرحباني الذي "لا يستطيع أحد أن يستثني عبقريته"، وإنما الحرب الأهلية اللبنانية "أنتجت المجتمع المنقسم حوله، فهو يساري شيوعي، والحزب الشيوعي كان المقاوم الأول في لبنان، فرّغت له إذاعة صوت الشعب بالكامل؛ ما أعطاه مداً جماهيرياً،
وبالإضافة إلى إلمامه بالسياسة، فإنّه يحمل اسم فيروز والرحابنة، هذه الظروف لا تتوفر لأحد". يقول الملحّن والمغنّي نوار أحمد، معللاً عدم امتلاك السوريين مشروعاً مشابهاً له إلى القرار السياسي.
عانت الأغنية الساخرة في سورية طوال عقود من معوقاتٍ عديدة أبرزها إنتاجية، "روّادها غالباً فقراء، وكون الإنتاج في سورية يرتبط بالرقابة ينصح الشاعر الغنائي من يؤدي هذا النمط "أن يتجاوز الرقابة؛ لأنه مهدد دائماً بالسجن من خلال احترافه اللعب على الألفاظ وإرسال رسائل مشفرة إلى الجمهور، وأن يكون ذكياً بما يكفي؛ لأنه سيصطدم مع جهاتٍ رقابية"،
ويؤكّد على ارتباط الأغنية الناقدة عموماً بثقافة المجتمع وظروفه فهي "بطبيعة الحال نتاج حركته، تقارب الفن الواقعي المنتشر حالياً في العالم، كالأغنية الواقعية التي تحتاج حركية مستمرة تستمدها من حركة وثقافة المجتمع وتؤثر به، وهذا كله لا يكفي، بل يحتاج أن "تحمل فكر حزبٍ معين، يقف خلفك لتحقق تأثيراً ما، ثم تأتيك القضية الفنية المشغولة باحترافية، فتنتقل إلى حالة الانتشار العام التي تنجم عن جمالية الكلمة واللحن.
وليست الأغنية الناقدة وحدها من خفتت خلال السنوات الماضية في سورية، بل "كل ما هو ثقافي تراجع حتى الدراما السورية التي كانت تقدم أفكاراً وطروحاتٍ على سويةٍ عاليةٍ من خلال النصوص المحبوكة باحترافية، تراجعت على حساب المشهدية.
كذلك الأغنية، نحن نكتب ونلحن ونغني من دون أن يُقدَم لنا شيء، الدراما يُقدم لها الصورة على الأقل.
الفترة التي نهضت بها الأغنية السورية هي فترة نهوض الدراما التي أُنتجت خلالها مقدمات موسيقية عالية المستوى، فالدراما هي من تحمل الأغنية لا العكس، وهذا لا ينفي أبداً وجود موسيقيين سوريين رائعين ولهم تاريخهم استبعدوا أمنياً أو سياسياً أو عداوات كار".
يعترض الفنان أمجد طعمة على مبدأ المقارنة، فبرأيه "الظروف القاسية وحدها لا تكفي لإيجاد تيار فني ساخر له هوية متماسكة"، مستشهداً بحالة زياد الرحباني الذي "لم يكن مجرّد انعكاس لواقعّ قاسٍ، بل نتاج بيئةٍ ثقافيةٍ غنية، سمحت له بالتمرّد الذكي، ووفرت له هامش حريةٍ ولو كان محدوداً،
أما في الحالة السورية، غابت الرؤية الثقافية الشاملة، وساد الارتجال، من دون وجود مؤسساتٍ تحمي وتحفّز هذا النوع من التعبير، عشنا قسوة الواقع، لكننا افتقرنا لمشروعٍ ثقافيٍ يترجم هذه القسوة إلى خطابٍ فنيٍ حاد، عميق، وساخر، فالهوية لا تُخلق من الألم وحده، بل من وعيٍ نقديٍ ينظّمه مشروعٌ فنّي تتوفر له أدواته الخاصة ووضعٌ اقتصادي جيد أيضاً للعامل في هذا المجال بما يضمن استمراريته"، وما تزال صناعة هذا الفن مقيدةً "بمزيجٍ معقدٍ من الرقابة والإنتاج برأي الإعلامي أمجد طعمة،
إلا أنّ "الرقابة، سواء كانت سياسيةً أو اجتماعيةً أو حتى ذاتيةً، تبقى العامل الأكبر، فالإنتاج يمكن تجاوزه بتكنولوجيا بسيطة اليوم، لكن غياب الأمان الفكري والتعبيري يجعل الفنان يفكر ألف مرة قبل أن يكتب أو يغني،
فالرقابة لا تأتي فقط من الدولة، بل من مجتمع لم يعتد على نقد ذاته بصوتٍ مرتفع، أما الإنتاج، فهو متأثرٌ بسوقٍ تجاريةٍ لا تجد في الأغنية الساخرة ربحاً مباشراً؛
لذا تُهمَّش، ويستحيل اليوم بأغنية ساخرة تحريك شيء كما حصل أيام سيد درويش، نحن نستهلك الأغنية الناقدة كمتنفس، لا كموقف وهذا الفرق هو ما يجعل صناعتها لدينا ضعيفة"،
فالأغنية الناقدة من وجهة نظر نجم برنامج "غداً قد نلتقي" الساخر "ترتبط بوعي المجتمع؛ لأنها تُبنى على قضاياه، لكنها تؤثر عليه أيضاً حين تُقدَّم بذكاءٍ وجمالٍ وفن،
وحين يسمع الإنسان أغنيةً تسخر من الفساد أو العبث السياسي، وتعبّر عن مشاعره بصيغةٍ راقية، تبدأ عملية إعادة التفكير، هذا النوع من الفن يربّي الذوق والوعي معاً.
ولكن العمل الساخر يصير، حين يغيب هذا الوعي المسبق، بلا صدى، فالأغنية الناقدة بحاجة إلى جمهورٍ يفهم الكناية، يتذوق السخرية، ويبحث عن المعنى، لا مجرّد نكتةٍ سطحيةٍ".
وهنا يأتي دورها الذي "كان يمكن أن يكون محورياً، لو أُتيح لها أن تُولد من رحم اللحظة، لا من هامشها، الأغنية الساخرة ليست فقط صرخة، بل هي أداة تحليل شعبي، تغني حيث يعجز التحليل الأكاديمي،
في سورية بعد الحرب، صار الصوت الساخر محاصراً بين الخوف من السلطات، والتوجّس الشعبي من كل ما يبدو تهكماً على ما سموه المقدّس الوطني، فخفتت الصرخة؛
لأن من يطلقها لم يعد يملك منبراً ولا جمهوراً آمناً، لكنها ما زالت ضرورة؛ لأن الوعي السياسي لا ينشأ فقط من الخطاب الجاد، بل من تفكيك السائد بنبرةٍ ساخرةٍ ومؤلمةٍ في آنٍ معاً خصوصاً وأنّ السخرية أفضل طريقةٍ لمواجهة قبح الحياة".
ويقف الممثل والمخرج المسرحي مناصراً للموسيقا السورية، فيقول أنّ "الجملة الموسيقية السورية ساحرةٌ وعاطفية، لكنها غالباً ما ارتبطت بالطرب والوجدانيات، لا بالنقد والسخرية"،
مؤكّداً أنّ هذا العجز "ليس في الموسيقا ذاتها، بل في عدم استثمارها ضمن قوالب جديدة تعبّر عن اللحظة الساخرة، وحتى حين وُجدت محاولات، (مثل سلامة الأغواني، رفيق سبيعي، ياسر العظمة، ومحمد خير الجراح) لم تُدعَم كفاية، ولم تُمنَح المساحة الكافية لتتطور، الأغنية الساخرة تحتاج موسيقا ذكية، تُبنى لتخدم النص، وليس العكس،
وربما السبب الأعمق في عجز الجملة الموسيقية السورية عن النهوض بواقع الأغنية الساخرة هو أنّ الكثير من الموسيقيين السوريين فضّلوا السير في درب الحنين بدل التمرد، فبقيت الموسيقا رهينة الجمال لا القلق، على أمل أن يجد المستقبل أغانينا الساخرة التي قدمناها وينصفها".
يرى الفنان محمد خير الجرّاح أنّ امتلاك هوية خاصة بمجال الأغنية الساخرة "معقدٌ قليلاً ومتعلقٌ بالظرف العام للبلد، إضافةً إلى عدم وجود منصات تتبنى عرض هذه المشاريع"، فالظرف العام لدينا، ليس السياسي فقط بل حتى الإعلامي والاجتماعي، لم يكن يساعد على تسليط الضوء على هذه المشاريع.
مساحة الحرية هي الأهم حتى تستطيع إنتاج الأغاني التي تلامس الوجع الحقيقي للناس وتنقل الصور الاجتماعية على حقيقته، لكن العائق الإنتاجي لا يقل صعوبةً، فالسواد الأعظم اليوم يذهب باتجاه الأغاني المسلية كالحب والمشاعر،
وفي حال انتاج أغنية في النقد، فتضيء على قصص سطحية، أو موضوعات هامشية، ليست بالعمق الذي كانت تعالجه أغاني منتصف القرن العشرين، ما يؤكّد أن "المشكلة إنتاجيةٌ بالدرجة الأولى؛
لأن مثل هذه الأعمال لا تحقق أرباحاً لشركات الإنتاج، هذا الفن نوعٌ من الترف الفكري وليس للإنتاج المادي، لا يغلق حجوزات المسرح، وحتى أولئك الذين كانوا يحيون مثل هذه الحفلات انكفؤوا اليوم أمام الأغاني الضحلة"،
وهنا لا يقصد صاحب أغنية "الجو العام" أنّ "جميع الأغاني التي تنتج الآن كذلك، فهناك أغاني عديدة تصور المشاعر بأسلوبٍ جميلٍ وجيدٍ ولها جمهورها أما قطاع الأغاني الناقدة فيحتاج إلى تبنٍ حقيقي، وهذا غير موجود للأسف"،
وأول من غاص في هذا البحر هو "سيد درويش الذي فتح الأبواب وكسر القواعد، وانتقل بالاغنية العربية من مفهوم لمفهوم، ومن موضوعات لموضوعات، فشكّل ثورة في مجال الغناء، ودوره، وكان جزءاً من نبض الشارع الذي يعكس أوجاعه من خلال أغانيه،
هذه الحالة في عالمنا العربي نادرةً مقارنةً بأوروبا التي تذهب الكثير من أغانيها نحو موضوعات بعيدة قد تمس الفكر أوالعلاقات أو علم النفس، بينما السواد الأعظم من أغاني السوريين لا يزال تدور في فلك المشاعر،
فالمغني السوري لم يعد ابن شارعه، بل انسلخ عنه ونزح خارجاً، فابتعدت أغانيه عن نبض الشارع، خاصةً في ظل الظرف العام الذي مرّت به سورية خلال 14 سنة الذي ساده التخبط والانقسام في الوسط الفني، والتي غابت خلالها الأغنية السورية عموماً حتى الأغاني العاطفية على حساب الأغنية الجبلية أو الساحلية التي تحظى بجماهيريةٍ كبيرةٍ في لبنان أيضاً،
ولم تعد الأغاني تنتج بذات الجودة التي كانت تتصدر الشاشات والإذاعات سابقاً، خاصةً الساخرة منها، وراح الفنانون ينفخون في بوقٍ معطل، وإن ذهب أحدهم إلى الأغاني الناقدة اليوم فيعالجها بطريقة سطحيةٍ غالباً، والتي على الرغم من بساطتها تحتاج إلى ثقافةٍ وفكرٍ يجب إعماله، فإذا ما حظيت بالدعم الإنتاجي الكافي، فإنها تنتشر بين الناس وتجد صدىً لها، فتقوم بدورها،
لكن هناك ناس لا تسمع ولا تريد الناس أن تسمع،
فإذا بحث في سجل أسماء مثل: نهاد نجار، فتحي الجرّاح، صفوح شغالة، مضر شغالة، خالد حيدر وغيرهم، ستجد عدداً كبيراً من الأغاني الناقدة الساخرة التي كانت تسلّط الضوء على الظواهر السلبية في المجتمع والسياسة، لكنها لم تجد الطريق الى الشهرة"،
ويرفض تحميل الموسيقا هذا التقصير، قائلاً: الجملة الموسيقية لم تعجز عن النهوض بواقع الأغنية السورية لكنها منكفئة على ذاتها، لا يمكنك أن تلوم الموسيقيين الذي يبذلون جهوداً جبارة.
استحضر الشاعر حيان حسن قول الصحافي ومؤسس الصحافة الساخرة يوسف كحالة؛ إثر توقف مجلته "المضحك المبكي " إنّ الحكومات العربية اجتمعت على اغتيال الصحافة الساخرة؛ لأنها تتعارض مع توجهاتهم،
وهذا ينطبق بالطبع وفق قراءة صاحب ديوان "ضحك وبكي" العامي على "كل فنٍ ناقدٍ ساخرٍ بما فيه الغناء، خاصةً في مجتمعٍ يفتقد حرية التعبير والانتقاد إلا من خلال الرقابة الصارمة"، فمشكلتنا اليوم إنتاجيةٌ ورقابيةٌ معاً؛
إذ لا يمكن لجهةٍ إنتاجيةٍ أن تغامر وهي التي تعتمد في عملها على الربح والخسارة بعملٍ تمنعه الرقابة، هذا عبءٌ عليها، ظاهرة الشيخ إمام فردية وليست مؤسساتية، والحالات المماثلة له في سورية لم تخرج من نطاقها الضيق،
بالرغم من الارتباط الوثيق بين ثقافة المجتمع والأغنية الناقدة، وهنا تكمن خطورتها بالنسبة للرقابة السلطوية؛ لأن الفن الساخر أساساً مهمته مواجهة الواقع، والموسيقا لم ولن تكون عاجزة يوماً ما،
لكن تطويع الجملة الموسيقية باتجاه الغناء الساخر والهادف يحتاج إلى مناخٍ من الديمقراطية بعيداً عن التخوين والتخويف والرقابة على حرية الإبداع.
يؤكّّد المايسترو نزيه أسعد أنّ "المحاولات لم تتوقف من قبل بعض الكتّاب والملحنين والمؤدين؛ لإظهار دور الأغنية الساخرة في السنوات الأخيرة"،
فكانت له تجربةً من خلال حفلات خاصة بهذا الشأن مثل (مهرجان الكاريكاتور في دار الأوبرا بدمشق) قبل عدة سنوات، وكان أستاذ المعهد العالي للموسيقا يأمل "نضوج هذا المشروع الذي خاطب شريحة الناس العامة،
لكنه لم ينضج بسبب ضعف التسويق والانتشار والاهتمام الإعلامي، حاله حال الأعمال الفنية الساخرة، نتيجة غياب الجهة الإنتاجية،
علماً أنّ المادة التي يمكن طرحها في هذا الشأن متوفرةٌ كلاماً ولحناً وأداءً، وكلنا ينتظر المسار الثقافي الذي يمكن أن يتبنّى هذه الأعمال وغيرها من أعمالٍ تهم المشهد الفني في بلدنا،
فالنهوض بالأغنية الساخرة يحتاج إلى المشجعين والمهتمين والشريحة الشعبية التي تنصت وتفهم، وهذا ليس مستحيلاً؛ لأن بلدنا شهدت سابقاً تجارب ناجحة في هذا المجال مثل تجربة سلامة الأغواني وغيره ممن عملوا في فن المونولوج الشعبي،
علماً أنّ الجملة الموسيقية آنذاك كانت تلعب دورها وتنتشر.
يتفق رواد الأغنية الناقدة على ضعف تأثيرها في ظل غياب عامل الإنتاج الذي فرضته الرقابة السياسية بالدرجة الأولى، والتي نجحت بإبعاد الجمهور عن عروضها؛ ما ضيّق عليه، وحدّ من انتشاره، وهمّش دوره في المساهمة بتشكيل الوعي الاجتماعي والسياسي.
حسن يوسف فخور
كاتب سوري