Logo

الصراع على اليمن... جغرافيا تصنع الحرب ودولة تبحث عن ذاتها

 لم يكن الصراع على اليمن وليد اللحظة الحديثة، بل امتداداً لجغرافيا نادرة جعلت البلاد في قلب التاريخ منذ أن وُجِد طريق يربط الشرق بالغرب.

 فالموقع الذي يطلّ على البحر العربي وخليج عدن والبحر الأحمر، ويحرس مدخل باب المندب، جعل اليمن نقطة لا يمكن تجاوزها. 

هذه الجغرافيا التي منحت البلاد أهمية فائقة تحوّلت عبر الزمن إلى عبء حين غابت الدولة، فأصبح اليمن بلداً أكبر من مؤسّساته، وأصغر من موقعه، وأكثر عرضة لتدخّلات الخارج من قدرة الداخل على تنظيم نفسه.

ويعود هذا الصراع إلى ما قبل الدولة الحديثة، حين حاول الرومان غزو اليمن للسيطرة على طرق التجارة، فتاهت جيوشهم في الصحراء وعجزت عن إخضاع الأرض. 

وحين فشلوا دفعوا بحليفهم الأكسومي، فجاء أبرهة الحبشي في مشروع يستهدف الموانئ والممرّات البحرية. 

ومع مرور القرون بقي اليمن مركزاً يتقاطع عنده طموح القوى الكبرى: من البرتغاليين والإسبان في بدايات العصر البحري إلى البريطانيين الذين حوّلوا عدن إلى واحدة من أهم قواعد إمبراطوريتهم. 

ومع دخول العالم الحديث تغيّرت الأعلام فوق السفن، لكن لم يتغيّر جوهر الصراع؛ فالسفن الأميركية والأوروبية واليابانية والصينية والروسية والهندية تتزاحم اليوم عند باب المندب كما تزاحمت أساطيل الماضي، بينما بقي اليمن نقطة الارتكاز الثابتة في معادلة القوّة البحرية.

تأتي أهمية اليمن الجيوبوليتيكية من أنّ باب المندب ليس مجرّد مضيق، بل أحد أعصاب التجارة العالمية. وحين أصبحت الممرّات البحرية عنصرًا حاسمًا في الصراع الدولي على النفوذ، عاد اليمن إلى مركز الاهتمام. 

وقد كشفت أحداث غزّة الأخيرة أنّ الصراع العسكري لم يعد مُنفصلاً عن الصراع الاقتصادي، وأنّ التأثير في حركة الملاحة جنوب البحر الأحمر يمكن أن يُعيد تشكيل موازين القوّة في الصراع العربي–الإسرائيلي، وفي الأمن العالمي على حدٍّ سواء. 
 
كذلك فإنّ قرب اليمن من القرن الأفريقي والصومال، وتنامي الأطماع الإثيوبية في الوصول إلى البحر، يجعلان المنطقة أكثر حساسية، ويضاعفان أهمية التوصّل إلى ترتيبات أمنية تحفظ مصالح الجميع وتمنع تحوّل البحر الأحمر إلى ساحة توتّر دائم.
 
ورغم ذلك، لم تستطع الدولة اليمنية تحويل هذه الأهمية إلى مشروع وطني. 

فبدل أن تصبح الجغرافيا مصدر قوّة اقتصادية وسياسية، بقيت بلا إدارة وبلا رؤية، ساهم الفساد والمحسوبية والارتماء في أحضان الخارج في هذا الضعف والفراغ، الذي فتح الباب أمام القوى الإقليمية والدولية. 

دخلت إيران عبر الحوثيين باعتبارهم جزءاً من مشروع إقليمي يتجاوز اليمن، ووجدت السعودية نفسها تواجه امتداداً إيرانياً على حدودها الجنوبية، فأصبحت الحرب بالنسبة إليها معركة أمن قومي قبل أن تكون معركة سياسية. 

واتجهت الإمارات إلى الموانئ والجزر اليمنية في إطار مشروع بحري أوسع يرمي إلى تعزيز نفوذها في البحر الأحمر. 

أما الولايات المتحدة، فتعاملت مع اليمن من زاوية الأمن البحري ومكافحة الإرهاب، لا من زاوية بناء الدولة، ما جعل البلاد ساحة تتقاطع فيها مشاريع لا علاقة لها بمصالح اليمنيين.

ولم يتوقّف الأمر عند القوى التقليدية. فالصين ترى في اليمن حلقة في مبادرة الحزام والطريق، وروسيا تبحث عن موطئ قدم في جنوب البحر الأحمر، 

وإسرائيل تعتبر باب المندب جزءًا من أمنها البحري، وتركيا ودول القرن الأفريقي تتعامل مع اليمن على أنه امتداد طبيعي لمجالها الحيوي. 

ومع هذه الكثافة من اللاعبين، أصبح الصراع دوليًا بامتياز.
 
لكن المشكلة الأعمق ليست في حضور هذه القوى، بل في غياب الفاعل اليمني. فقد عانت البلاد من ضعف بنيوي مُزمن في مؤسّسات الدولة، والحراك السياسي، وما يمكن تسميته بـ"العقدة اليمنية"، أي الاعتماد علي الخارج، 

فاتساع جغرافي لا يصاحبه مشروع سياسي، وطاقات بشرية كبيرة بلا إطار وطني جامع، وهُويّات محلية أقوى من الهُويّة الوطنية. 

هذا الفراغ جعل الداخل أضعف من الخارج، وسمح للنفوذ الإقليمي والدولي بأن يصبح أكثر قوّة من القرار اليمني نفسه.

وتتجلّى هذه العقدة في المفارقة الجغرافية بين الجبل والساحل. فقد فضّل اليمنيون تاريخيًا العيش في المرتفعات وتركوا الساحل شبه خالٍ، 

رغم أنّه كان يمكن أن يكون مصدر قوّتهم البحرية والاقتصادية. يمتدّ الساحل اليمني آلاف الكيلومترات، لكنه لم يتحوّل إلى محور قوّة للدولة، فبقي فراغًا سهلًا للنفوذ الخارجي.

 وهكذا بقيت الجغرافيا المانحة للقوّة بلا مشروع، والبحر بلا سيادة، والساحل بلا عمران يحميه.
 
إنّ مستقبل الصراع في اليمن لن يتحدّد بمدى قوّة اللاعبين الخارجيين بقدر ما سيتحدّد بقدرة اليمن على استعادة دوره فاعلًا لا مساحةَ نفوذ. 

فإذا ظلّ اليمن غائبًا عن إدارة ساحله وجغرافيته، سيبقى الممرّ البحري مُستباحًا لكلّ من يملك القدرة على فرض حضوره.

 لكن السيناريو الأكثر واقعية اليوم هو استمرار الصراع بصورته الجيوسياسية، لا العسكرية، بحيث تتحوّل السواحل والممرّات البحرية إلى خطوط تماس بين القوى الكبرى، بينما يصبح الداخل اليمني ساحة لإعادة تشكيل النفوذ الإقليمي.

 وفي المقابل، يظلّ السيناريو الأكثر أهمية مرهونًا بعودة الفاعل اليمني، أي قدرة النخب والمجتمع على إنتاج مشروع وطني يُعيد تعريف موقع اليمن في معادلة البحر الأحمر، لا بوصفه نقطة ضعف، بل نقطة قوّة.

 فإذا تمكّن اليمن من إعادة بناء أدواته البحرية والأمنية والسياسية، فإنه لن يخرج فقط من الاستقطاب، بل سيصبح لاعبًا فاعلًا في مستقبل الممرّات البحرية. 

أما إذا بقيت المؤسّسات منهارة، فإنّ مستقبل الصراع سيتجاوز الداخل نحو صراع أطراف على جغرافيا يمنية بلا صاحب، ما يعني أنّ مستقبل البلاد سيتقرّر في البحار قبل أن يتقرّر في البر. 

وهكذا يظل مفتاح السيناريوهات كلّها هو حجم الفعل اليمني نفسه: إن حضر تغيّرت قواعد اللعبة، وإن غاب بقي اليمن مسرحًا تُكتب عليه رغبات الآخرين.

إنّ الخروج من الاستقطاب يبدأ من إعادة بناء الفكرة الوطنية: دولة تمتلك رؤية بحرية واقتصادية، مؤسّسات مستقلة، نُخبًا تؤمن بالمشروع لا بالولاءات الخارجية، وشعبًا يُعاد ربطه بجغرافيته بدل جبهاته.

 فاليمن لا يستطيع استعادة موقعه من دون أن يستعيد دولته، ولا يستطيع استعادة دولته من دون مشروع يتجاوز الحرب ويمسك بالعناصر الحقيقية للقوّة.

اليمن اليوم حاضر في قلب العالم، لكنه غائب عن نفسه. وحين يلحق اليمن بذاته، لا بالعواصم التي تتنازعه، سيعود إلى مكانه الطبيعي: دولة بحرية قوية لا ساحة صراع تنتظر الآخرين ليكتبوا مستقبلها.

توفيق الحميدي
محامي وناشط حقوقي يمني