Logo

اليمن… عندما يفاوض الغياب نفسه

 بقلم: د.فيروز الولي 
منذ 2015: أربعة مبعوثين، عشرات المؤتمرات… وصفر كبير بحجم البلاد
من غرائب القدر أن اليمن البلد الوحيد الذي خاض أطول حرب عربية–عربية، وأكثر جولات تفاوض في الشرق الأوسط، دون أن يخرج باتفاق واحد يمكن وضعه في إطار أو حتى في حافظة بلاستيك.
خمسة. مبعوثين دوليين، عشرات الوسطاء، مئات الساعات  خلف الطاولات، وفي النهاية: صفر سياسي نظيف… من النوع الذي تفتخر به الرياضيات: صفر كامل، لا كسور فيه.
الصفر هنا ليس رقماً، بل نتيجة سلوك جماعي:
من يذهب للتفاوض لا يحمل قضية وطن، بل شهوة سفر، ولا يملك خبرة دولة، بل مهارة الوقوف بجانب شعار الأمم المتحدة لالتقاط صورة تذكارية تُنشر على تويتر مع تعليق:
“عودة الوفد الوطني بعد مفاوضات ناجحة”.
النجاح الوحيد الذي حققوه هو زيادة الأرصدة، وتطوير مهارات الإقامة في فنادق الدرجة الأولى.
مفاوض يذهب ومعه “ صديقة الفاضي”
الوفود اليمنية في المؤتمرات الدولية يشبهون رحلات الشباب الجامعية: يذهب أحدهم ومعه
صديق العائلة،
ابن الجيران،
قريب بعيد،
موظف لا علاقة له بالحوار
والسبب: اليوم اليومي مئة دولار، والغداء على حساب الممول.
هكذا صُنعت مخرجات مؤتمر الحوار الوطني، لذا خرجت المخرجات كما خرجت نتائج الحرب: عبث يقود إلى عبث.
والأسماء التي شاركت في الحوار — بجوار أخواتهم وصديقات العائلة — هي نفسها اليوم وزراء وسفراء ووكلاء في الشرعية، يمارسون هوايتهم المفضلة: تصدير الفشل واستيراد المنح.
الشرعية… حين يكون الكرسي أكبر من صاحبه
من رشاد العليمي وحتى أصغر مستشار كلهم دخلوا عالم السياسة بالخطأ.
لا أحد يعرف معنى فن التفاوض إلا من خلال فيديو على يوتيوب عن “لغة الجسد في الاجتماعات الدبلوماسية”.
الشرعية لا تعاني من نقص الشرعية فقط، بل من نقص الثقافة السياسية، نقص لغة الحوار، نقص مشروع الدولة.
يدخل ممثلوها القاعة بحجم مناصبهم الصغيرة لا بحجم بلد من 30 مليون إنسان.
لهذا السبب، يتقلص اليمن على الطاولة حتى تُصبح مساحة الدولة بحجم بطاقة دعوة لمؤتمر دولي.
الدولة ليست ختم رشاد، ولا تصريح من جدة، الدولة وعي سياسي يقنع العالم قبل أن يقنع الداخل.
ما دام أصحاب الكراسي أصغر من تاريخ البلد… سيظل اليمن صغيراً أمام الأمم.
الحوثي… حين تتحول الكهوف إلى لجنة مفاوضات
رغم سوداوية مشروعه، الحوثي فهم اللعبة:
تصنع مشروعاً قبل أن تصنع وفداً.
لهذا اختار مفاوضيه:
من الحوزة إلى المكتب السياسي، من المشرف العسكري إلى المشرف الثقافي.
الهدف واحد: انتزاع اعتراف العالم بالقوة، لا بالدموع.
وفي كل جولة تفاوض، خرج الحوثي أقوى مما دخل، بينما خرجت الشرعية تبحث عن جولة أخرى لتعيد الصورة.
ليس لأنه أذكى، بل لأنه يمتلك أجندة.
وإن كانت هذه الأجندة قادمة عبر سلسلة بريدية من طهران، لكنها أجندة واضحة.
الشرعية وحدها تملك أجندة تشبه ورشة تدريبية: كيف تتحدث دبلوماسيًا، كيف تبتسم أمام العدسات، كيف تقول كلمة “ديالوغ” دون أن تكسر حرف الـG.
الاقتصاد… حين يتحول الوطن إلى ماكينة ATM
في اليمن، السلام ليس وقف الحرب، بل توزيع البدلات.
وكأن التفاوض تحوّل إلى قطاع اقتصادي جديد:
بدل يومي،
تذاكر سفر،
مكافأة حضور،
صور،
تقارير ترفع للجهات الممولة،
ووعود أممية تنتهي في البريد العشوائي.
الجائع في الجبهة، والشبعان في الفندق.
الفقير يقتل، والمسؤول يكتب بياناً من 11 نقطة يبدأ بـ نؤكد، ندين، نحث.
الدبلوماسية… حين يتحول الممثل إلى موظف استقبال
العالم لم يعد يرى الشرعية كدولة، بل كـ منظمة مجتمع مدني كبيرة تحتاج تمويل:
ورش، تدريبات، تمكين المرأة، دعم الشباب، ومشاريع “الحياة بعد الحرب” التي تُقام بينما الحرب مستمرة.
بينما ينظر للحوثي — رغم عبثه — كسلطة تملك:
أرضاً،
سلاحاً،
قراراً،
وخطاباً متماسكاً (ولو كان بلا عقل).
العالم لا يتعامل مع النية الطيبة، بل مع موازين القوة.
العسكر… حين يصمت الرصاص ويتكلم الفساد
الحرب في اليمن لا تتوقف عندما تنتصر الجبهة، بل عندما ينقطع التمويل.
الجندي مشروع بندقية بالإيجار، لا مشروع وطن.
لهذا لم تستطع الشرعية تحويل أي نصر عسكري إلى ورقة سياسية واحدة.
بينما الحوثي يحوّل طائرة مسيّرة إلى جلسة طارئة في مجلس الأمن.
الخاتمة: كيف ينجو اليمن من المفاوضات؟
اليمن لن ينجو طالما التفاوض مهنة وليست مهمة، وطالما الوطن فرصة سفر لا قضية تنقذ أمة.
اليمن يحتاج إلى:
1. مشروع دولة لا مشروع حقائب.
2. وفد يعرف التاريخ قبل المصطلحات.
3. لغة سياسية تشبه اليمن لا برامج التدريب.
4. حضور ثقافي وإنساني على الطاولة.
5. عقول تفاوض بقلب صادق لا بمحفظة مليئة.
6. شرعية تصنع القوة لا شرعية تنتظر الإعفاء.
7. إبعاد أجيال الصور وإحلال مفاوضين يشبهون اليمن:
صلابة جباله، كرامة قبائله، ضمير أطفاله.
عندها فقط، عندما يجلس اليمن على الطاولة:
لن يفاوض كضيف… بل كصاحب وطن.
أما الآن…
الوفود تسافر على حساب اليمن… وتعود دون اليمن.
والخرائط تحترق…

بقلم: د.فيروز الولي