Logo

التقرير الأممي عن الحوثيين شهادة كاشفة عن بنية العنف المنظم

 أتصور أن تقرير فريق الخبراء التابع للأمم المتحدة المرفوع إلى مجلس الأمن في أكتوبر (تشرين الأول) 2025 لم يعد مجرد وثيقة بيروقراطية تضاف إلى أرشيف النزاعات، بل تحول إلى شهادة أممية كاشفة عن بنية العنف المنظم الذي مارسته الميليشيات الحوثية ضد الإنسان اليمني،

 فالتقرير، في عمقه، يتجاوز الوظيفة التقريرية إلى البنية التأويلية، إذ يفكك فلسفة العنف ذاتها لا مظاهرها فقط، إنه نص يرصد الجريمة بوصفها ممارسة فكرية تشرعن القهر باسم "الحق الإلهي"، وتؤسس لسلطة تتغذى من وهم التفويض السماوي.

بهذا المعنى، أرى أن التقرير لا يكتفي بوصف انتهاكات، بل يقدم وثيقة قانونية وفلسفية تظهر أن ما يجري في اليمن ليس صراعاً أهلياً على السلطة فحسب، بل ومشروع إبادة مؤسس على أيديولوجيا تدمج العنف في تعريف الهوية ذاتها، 

وعليه تصبح الحرب في اليمن ليست وسيلة لتحقيق هدف سياسي، بل شرطاً لوجود الجماعة، ويغدو القمع منظومة لتشكيل الذات الجماعية، وفق منطق الطاعة والخضوع.

ويبرز في هذا السياق ما كشف عنه التقرير من علاقة ملتبسة بين الحوثية وتنظيمات الإرهاب كتنظيم "القاعدة" وحركة "الشباب" الصومالية، فالجماعة التي تزعم محاربة الإرهاب التكفيري تمارس معه نوعاً من التخادم المتبادل، في تبادل للمصالح والموارد والأسلحة، 

المفارقة هنا لا تكمن في التعاون ذاته، بل وأيضاً في البنية الفكرية التي تسمح بتحول العداء العقائدي إلى شراكة نفعية، إنها إعادة إنتاج للإرهاب في صورته الهجينة: إرهاب يتلبس بالدين حيناً وبالمقاومة حيناً آخر.

الحوثية، بهذا التوصيف، تتبدى كنموذج للإرهاب المتقن التنكر، القادر على ارتداء أقنعة متعددة لتبرير سلطته: قناع المظلومية الدينية، وقناع الدفاع الوطني، وقناع الثورة الشعبية.

بعبارة أخرى أكثر وضوحاً ودقة إننا بإزاء "سلطة أمر واقع" تمارس التمثيل الرمزي للعنف أكثر مما تمارس العنف ذاته، سلطة تقنع المجتمع بأن البطش قدر، وأن الطاعة فضيلة، وأن القهر واجب أخلاقي في سبيل "الحق السلالي المقدس".

بيد أن أكثر ما يثير القلق في التقرير، كما أرى، هو توصيف وحدة "الزينبيات"، تلك التشكيلات النسائية التي أدمجت رسمياً في أجهزة المخابرات والشرطة ضمن مناطق سيطرة الجماعة، 

هذه الظاهرة لا يمكن فهمها في بعدها التنظيمي فحسب، بل في بعدها الأنثروبولوجي: إذ تمثل في اعتقادي إعادة صياغة جذرية لدور المرأة داخل نسق العنف، إذ يجري تحويلها من ضحية محتملة إلى أداة لإعادة إنتاج القهر في صيغته "المؤنثة".

فحين تسند إلى النساء مهمات المراقبة والاعتقال والتجنيد، لا يكون الأمر مجرد مشاركة في الفعل الأمني، بل إعادة تأهيل للعنف نفسه كي يبدو أخلاقياً ومبرراً، 

في هذا الإطار، أتصور أن سلطة الأمر الواقع تتحول إلى خطاب أخلاقي يضفي على القمع مسحة من القداسة، ويحول الانتهاك إلى ممارسة عقائدية.

إن "الزينبيات" في جوهرهن صورة معكوسة لآلية الإخضاع، إذ يستبدل العنف الفيزيائي بعنف رمزي يكتسب شرعيته من الدين.

هذا التحول من القهر باعتباره أداة إلى الطاعة بوصفها غاية، يمثل انزياحاً جوهرياً في مفهوم السلطة ذاته، في الواقع لم تعد السيطرة تمارس عبر الإكراه المباشر، بل عبر هندسة الوعي الجمعي وصناعة القبول الداخلي،

 وعليه تبرز خطورة البعد الفلسفي للتجربة الحوثية، إذ تتحول السلطة من فعل قهر إلى نظام إقناع، ومن ممارسة القوة إلى إعادة إنتاج الطاعة باعتبارها فضيلة وجودية.
 
ويؤكد التقرير الأممي كذلك أن الميليشيات نجحت في تحويل الفضاء المدني إلى مختبر للعسكرة، فالمصانع صارت ورشاً لتجميع الطائرات المسيرة، والمدارس أثناء الإجازات الصيفية تحولت إلى ثكنات أيديولوجية لتنشئة جيل جديد من المقاتلين.

في اعتقادي هذه ليست مجرد وقائع مادية بل انعكاس لمشروع شامل يهدف إلى تحويل المجتمع إلى منظومة قتالية متكاملة، بحيث يغدو الإنسان ذاته جزءاً من ماكينة الحرب لا من نسيج الحياة.

لاحظوا معي وتأملوا بهدوء: لقد بات الفضاء العام، الذي يفترض أن يحتضن أشكال التفاعل الاجتماعي والمدني، مجالاً مغلقاً للولاء الإجباري. تحولت المشاركة في الفعاليات إلى اختبار سياسي، والخدمات العامة إلى أدوات عقاب، 

بذلك أفرغ مفهوم "المواطنة" من مضمونه، وأعيد تعريف الإنسان ككائن وظيفي داخل نظام سلالي شمولي قامع يرى في الطاعة معيار الوجود وفي العصيان نفيه.

أما على الصعيد الاقتصادي، فيكشف التقرير الأممي عن بعد آخر للهيمنة يتمثل في سيطرة الحوثيين على قطاع الاتصالات وتحويله إلى "بنك حرب" يمول آلة الدمار، 

هذه السيطرة لا تقتصر على المال، بل تمتد، كما أرى، إلى المعنى ذاته، إذ تتحكم الجماعة بالصوت والاتصال والمعلومة، أي بالأدوات التي تصنع الوعي الجمعي، والاقتصاد هنا بالطبع ليس حيزاً محايداً، بل أحد وجوه السلطة الرمزية التي تدار بها الحرب، وتدار بها العقول في آن.

التقرير الأممي يستعرض أيضاً مظاهر القمع في السجون الحوثية: الصعق، والإيهام بالغرق، والاغتصاب، والتعذيب الممنهج، بوصفها أدوات لتدمير الإرادة الإنسانية، 

وبالتوازي تفرض الدورات الفكرية وغسل الأدمغة عبر المساجد والمدارس والمخيمات الصيفية، في مشروع يهدف إلى خلق "إنسان طائع ميتافيزيقياً"، يرى في العنف خلاصاً، وفي طاعة "السيد" طريق النجاة، إنها عملية استعباد روحي تسبق السلاح وتمنحه شرعية الوجود.
 
يتجاوز التقرير الأممي، في خاتمة الأمر، حدود التوثيق إلى مساءلة أخلاقية للعالم بأسره. فالحوثية، كما تكشف عنها الوقائع الأممية، ليست أزمة يمنية محلية، بل تهديداً وجودياً لمفهوم الدولة والقانون والإنسان، 

إن الموقف منها ليس شأناً سياسياً، بل امتحاناً فلسفياً لقيمة العدالة ذاتها، إذ إن إنقاذ اليمن من براثن هذه البنية ليس فقط ضرورة إنسانية في تصوري، بل وفعلاً لاستعادة المعنى الضائع للكرامة البشرية وللضمير الكوني الذي يبدو اليوم مهدداً بالصمت أكثر مما هو مهدد بالعنف.

في الواقع إن العدالة هنا ليست مطلباً سياسياً، بل ضرورة فلسفية لإعادة المعنى لفكرة الإنسان، ولإنقاذ ما تبقى من جوهر القيم التي بني عليها العالم الحديث.

سامي الكاف 
صحافي وكاتب يمني