"الوطن" كفكرة ضائعة: اليمن في مرآة الانقسام
أعتقد أن المعضلة في الخطاب السياسي اليمني ليست كامنة في نقص التعبير، بل في فائضه حين يقال ما لا يقصد، أو يقصد ما لا يقال.
ولعل أكثر المفردات التي تشي بهذا التناقض هي كلمة "الوطن"، تلك التي ترفع في سياقات متباينة كأنها شعار محايد، بينما يعاد تدويرها في الواقع لتغطية فراغ المعنى، أو لتبرير تموضع سياسي قد يكون مناقضاً لمضمونها الجوهري.
ذلك أن "الوطن"، في صورته الأولى، فكرة ناظمة، تشتق منها القوانين، وتبنى على معناها الجماعة السياسية، ويفترض أن تكون مرجعية للولاء والانتماء، لا ساحة لتعدد القراءات المتخاصمة، لكن حين تغيب هذه المرجعية،
ويتحول المصطلح إلى حقل دلالي سائب، يصبح كل طرف قادراً على اختطافه، ليس بالمعنى الحركي فحسب، بل بالمعنى المفاهيمي أيضاً، بما يفقد الكلمة وظيفتها الجامعة، ويقحمها في لعبة الرموز التي تزين الخطاب وتفرغه من مضمونه.
إن أزمة "الوطن" في الخطاب اليمني في اعتقادي ليست لغوية ولا بلاغية، بل سياسية وفكرية بالدرجة الأولى، وهي تعبير عن مأزق عميق يخص هشاشة التصورات الجامعة، واختلال الأولويات، وضبابية المشروع السياسي الذي يفترض أن تتشارك فيه أطراف تزعم انتماءها لجبهة واحدة.
وحين يستحضر "الوطن" دون تعريف، أو يستخدم كغطاء لمواقف متناقضة أو لاغية لبعضها بعضاً، فإن ذلك لا ينتج وعياً وطنياً، بل يعيد في تصوري إنتاج الانقسام، ويربك البوصلة الأخلاقية التي من المفترض أن تهتدي بها القوى السياسية في لحظة فارقة من تاريخ اليمن المعاصر.
في هذا النص لا يعاد فتح الجدل حول مفهوم "الوطن" من باب التنظير، بل يستقصى من خلال نماذج حية، أخترتها بعناية بحيث تجسد كيف يمكن للفظ أن يتحول إلى معبر لخطابات مشروطة، أو إلى قناع يخفى تحته نزوع انفصالي، أو ارتباك تائه في تعريف الهوية السياسية.
وهي نماذج كما أرى لا تدين الأشخاص بقدر ما تكشف عمق الخلل البنيوي الذي يعطل استعادة الدولة ممن انقلب عليها بقوة السلاح، ويعرقل إمكان التوافق الوطني على مشروع جامع.
فما لم يحرر الوطن من الغموض، ويستعاد إلى موضعه كقيمة دستورية ومفهوماً وظيفياً، سيظل كل حديث عن الحلول والمصالحة الوطنية، وإعادة البناء، أو حتى تقرير المصير، مجرد تكرار ممل لمفردات لا تؤسس إلا للفراغ.
واليوم تبدو مفردة "الوطن" في الخطاب السياسي اليمني مثلما لو أنها مفرغة من المعنى، تستحضر لا للتعبير عن انتماء جامع بل لتغليف مشروعات متعارضة، وأحياناً متناقضة.
وهذا التناقض في اعتقادي لا ينبع فقط من تعدد الأطراف وتعارض هذه المشروعات وأهدافها، وأوضحت هذا الأمر في عدد من مقالاتي التحليلية الماضية، بل ومن انعدام الاتفاق على تعريف واحد لهذه المفردة.
وحين تغيب مرجعية متفق عليها لمفهوم "الوطن"، يغدو استخدامه في الخطاب السياسي أقرب إلى الإنشاء الخالي من المعنى، أو إلى التمويه المقصود لتمرير مواقف لا يمكن التصريح بها بوضوح.
ليس ذلك استنتاجاً نظرياً، بل ما يبرهن عليه الواقع، وتؤكده نماذج سياسية متعددة. في رسالته الموجهة بتاريخ الـ31 من يوليو (تموز) 2025 إلى مجلس القيادة الرئاسي وهيئة التشاور والمصالحة، يعلن أكرم العامري تعليق أعماله في الهيئة بصفته نائب الرئيس فيها احتجاجاً على حادثة مقتل المواطن محمد سعيد يادين في تريم، ويختم رسالته بالقول "حفظ الله حضرموت... حفظ الله الوطن".
عبارة تفترض فيها النية الوطنية، لكنها لا تخفي التناقض الداخلي، فحضرموت هنا موضع التحديد، أما "الوطن" فمفردة عائمة، دون إشارة إلى أي وطن يقصد.
وإذا كان العامري من أبناء حضرموت، فإن سياق العبارة يجعلها أكثر التباساً، وكأن "الوطن" المقصود هو حضرموت، أو في الأقل مشروط بها (أنهى العامري تعليق عمله في الهيئة في نفس يوم تلقيه رسالة من رئيسها محمد الغيثي الـ16 من سبتمبر (أيلول) 2025،
بسبب ما سماه الأخير، وهو عضو قيادي في المجلس الانتقالي الجنوبي، وجود تباينات في مجلس القيادة الرئاسي، ولما تستدعيه المصلحة الوطنية والظروف التي يمر بها المجلس وتمر بها بلادنا، دون أن يشير في الرسالة إلى اسم اليمن ولا أي مصلحة "وطنية" يقصد وماذا يعني بكلمة "بلادنا").
قبل ذلك، وفي الثالث من فبراير (شباط) 2024، كتب اللواء فرج البحسني، عضو مجلس القيادة الرئاسي ونائب رئيس المجلس الانتقالي الجنوبي، منشوراً على حسابه في موقع التواصل الاجتماعي "إكس"،
قال فيه "نؤكد أننا لسنا ضد أية قوة يتم تشكيلها لحماية حضرموت والوطن عامة"، مرحباً بتشكيل قوات "درع الوطن"، لكنه يشترط أن تحل محل القوات القادمة من خارج حضرموت، ويوصي بدفع تلك القوات إلى جبهات القتال في الشمال لمواجهة الحوثيين.
من حيث الشكل يبدو الخطاب حريصاً على "الوطن"، لكنه يكرر الإشكالية نفسها، إذ يضع حضرموت كمحور للمشروعية، بينما "الوطن" المقصود لا يعرف بدقة.
واللافت أن المجلس الانتقالي الجنوبي، الذي يمثله البحسني، لا يعترف بالجنوب اليمني في أدبياته، وإنما يسعى إلى إقامة كيان باسم "الجنوب العربي"، وهو كيان متخيل لا مرجعية قانونية له، ولا وجود له في نصوص الدولة أو في أي من مخرجات الحوار الوطني، بل يتناقض مع مرجعيات الحل السياسي نفسها، وأولها إعلان نقل السلطة.
قبلهما، وتحديداً في السادس من يونيو (حزيران) 2022 ألقى اللواء هيثم قاسم طاهر عضو هيئة رئاسة المجلس الانتقالي الجنوبي وزير الدفاع السابق في جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية كلمة بمناسبة تدشين عمل اللجنة العسكرية والأمنية العليا، كرر فيها مفردة "الوطن" ثماني مرات، دون أن يرد ذكر اليمن ولو مرة واحدة.
المفارقة أن الكلمة كانت متوازنة من حيث الشكل، واعية بحساسية اللحظة وتعقيداتها، لكنها في الوقت نفسه كانت - مثلما كتبت يومئذ في حسابي على موقع التواصل الاجتماعي "فيسبوك" - إرهاصاً حقيقياً لوضع سيفجر نفسه لاحقاً، لأن "كل طرف لديه تعريفه الخاص بالوطن، بالتالي ما سيفعله تالياً باتجاه هذا التعريف".
ولسائل أن يسأل السؤال الذي يتحاشاه كثر: ماذا تعني مفردة "الوطن" بالنسبة إلى رئيس وأعضاء مجلس القيادة الرئاسي، وما فعلوه حتى الآن وما سيفعلونه تالياً باتجاه هذا التعريف؟
دعوني أضع ثلاثة نماذج أخرى حية حديثة لأهم ثلاثة مسؤولين في الجمهورية اليمنية لوضع اليد على كيفية تعاملهم المختلف - في موقع التواصل الاجتماعي "إكس" - مع مفردة الوطن، في مناسبة واحدة هي اليوم العالمي للشباب الذي صادف الـ11 من أغسطس (آب) 2025، وعلى نحو يؤكد ما طرحته في مبتدأ هذا المقال التحليلي.
كتب رئيس مجلس القيادة الرئاسي رشاد العليمي بوضوح "في اليوم العالمي للشباب، باسمي وأعضاء المجلس والحكومة نحيي عزيمة شباب شابات (اليمن) الذين يقاومون بكل الوسائل حرب الميليشيات الحوثية الإرهابية.
إننا نراهن على إبداعات وطاقات هذا الجيل في صناعة التحول، وكتابة الغد المشرق الذي يليق بتضحياتهم، وأحلامهم الكبيرة".
وفعل الأمر نفسه رئيس الحكومة سالم صالح بن بريك وكتب بوضوح: "في اليوم العالمي للشباب، أقول لشباب (اليمن): أنتم القوة التي لا تهزم، والأمل الذي لا ينكسر. بكم نواجه التحديات، ونبني الغد الذي نستحقه... أنتم نبض (الوطن) وقوة التغيير، ونراهن على دوركم في معركتنا المصيرية للانتصار في الحرب الاقتصادية واستكمال استعادة الدولة وتنفيذ الإصلاحات الشاملة".
أما عضو مجلس القيادة الرئاسي رئيس المجلس الانتقالي الجنوبي عيدروس الزبيدي فكتب التالي متعمداً عدم ذكر (اليمن) كعادته في كل خطاباته "الشباب هم عماد البناء والتنمية في كل زمان ومكان، وشبابنا هم ثروة هذا (الوطن) ورأس ماله، وهم القوة التي نبني عليها، والروح المتقدة القادرة على تغيير الواقع وصناعة المستقبل.
نهنئكم بيومكم العالمي، وسنواصل العمل الدؤوب لتأهيلكم وتمكينكم لتكونوا شركاء في تحقيق آمال شعبنا في التنمية والبناء والاستقرار والازدهار".
هذه الأمثلة المشار إليها أعلاه، وغيرها كثير، تكشف المأزق العميق الذي يواجه الخطاب السياسي اليمني في استخدام مفردة "الوطن". لا يستخدم اللفظ للدلالة على مشروع جامع بقدر ما يستحضر لتزيين مشروعات انقسامية، أو لإخفاء حدود الولاء.
كل طرف يرفق خطابه بكلمة "الوطن" دون أن يشعر بالحاجة إلى تحديده إلا في استثناءات، أو ربطه بنص قانوني أو سياسي واضح. وهي في تصوري فجوة دلالية لها كلفتها الباهظة، ليس فقط في صناعة الوهم السياسي، بل وفي تعقيد مشروع استعادة الدولة ممن انقلب عليها بقوة السلاح، وفي تفخيخ العملية السياسية ذاتها.
وإذا كان الحديث عن "الوطن" في الخطاب الرسمي ينبغي أن يتأسس على مرجعية دستورية وقانونية واضحة، فإن نص إعلان نقل السلطة الصادر في السادس من أبريل (نيسان) 2022 قدم نموذجاً دقيقاً لذلك والمفترض أن يمارس رئيس وأعضاء مجلس القيادة الرئاسي مهامهم وفق هذا النص، لا ضده،
فقد ورد في الإعلان تعبيرات صريحة عن الالتزام بـ"وحدة اليمن وسيادته واستقلاله وسلامته الإقليمية ووحدة أراضيه"، واستند إلى مرجعيات ثلاث هي: الدستور اليمني، والمبادرة الخليجية وآليتها التنفيذية، ومخرجات الحوار الوطني الشامل،
بل إن الإعلان وضع تعريفاً وظيفياً للوطن من خلال المهام الموكلة إلى مجلس القيادة الرئاسي، وفي مقدمها "تحقيق الأمن والاستقرار وتهيئة جميع الظروف لتحقيق تكامل القوات المسلحة تحت هيكل قيادة وطنية موحدة".
ليس هذا مجرد نص عادي أو عابر، بل هو إعلان تأسيسي لمجلس القيادة الرئاسي، وركيزة قانونية لمنظومة الشرعية القائمة، وهو ما يجعل تجاهله في الخطاب السياسي لبعض أعضاء المجلس أو المحسوبين على أطراف ضمن مكوناته،
مؤشراً مقلقاً إلى هشاشة الالتزام بالمشترك الوطني، واستهلاك مفردة "الوطن" دون ربطها بمضمون سياسي حقيقي.
وحين يتعدد تعريف "الوطن" في خطاب أطراف يفترض أنها ضمن جبهة الشرعية، فإن ذلك لا يضعف الخطاب فحسب، بل ينسف جوهر المشروعية التي تستند إليها تلك الجبهة.
وهذا في اعتقادي أخطر ما يمكن أن تواجهه العملية السياسية في اليمن. لأن الغموض في المفاهيم ينتج التباساً في المواقف، ويحول دون بناء توافقات صلبة، بل قد يدفع لاحقاً إلى تصدعات أكثر جذرية إذا ما انتقل هذا الغموض إلى مؤسسات صنع القرار (مثلما هو ماثل في بيان مجلس القيادة الرئاسي الـ18 من سبتمبر 2025 وما كتبته حياله في مقال سابق ).
إن إعادة الاعتبار لمفهوم "الوطن" كفكرة جامعة تتطلب أولاً إعادة تعريفه ضمن إطار سياسي وقانوني ودستوري واضح لا لبس فيه، وثانياً مساءلة الخطابات السياسية التي تستدعيه بلا وعي، أو بوعي حاذق، أو بخلفيات مزدوجة، لأن مستقبل الدولة في اليمن، واستدامة أي حل سياسي شامل وعادل، مرهونان بوضوح المفاهيم، لا بتراكم الشعارات.
سامي الكاف
صحافي وكاتب يمني