Logo

عن مأرب التي لا تُرى

 يتبدّل وجه المدينة كلّ يوم، تمتدّ الأعمدة وتُشيّد البنايات، تتغيّر ملامحها وتتسع رقعتها على نحوٍ واضح. 

وعلى بُعد كيلومترات قليلة فقط، ثمّة اتساع آخر، لكنه مختلف تمامًا، حيث تُنصب خيام جديدة، وتُرمّم الكرفانات المُتهالكة، ويعيش أناسٌ معزولون عن الخارج، الخارج الذي لا يبعد سوى بضع كيلومترات، لكنه يبدو وكأنّه عالم آخر لا يُذكر إلا في التقارير الإخبارية.

في الهامش الذي لا تراه الحكومة، ولا تلتفت إليه المكوّنات المحلية أو الدولية، يعيش نازحون من شتّى مناطق اليمن في أطراف مأرب. أناس لا يُذكرون إلا في تقارير المنظمات الإغاثية، ولا يُستحضرون إلا حين يُراد تسويغ غاية أو تمرير مشروع. 

مأرب هنا ليست مدينة مزدوجة الملامح فحسب، بل مرآة لبلد ينقسم بين مركزٍ يزداد صخبًا وهامش يزداد صمتًا.

وحين تطأ قدماك مخيّمات النزوح في مأرب، تمتدّ أمامك مساحات شاسعة بلون واحد، تختزن وجعًا غير مرئي.

 آلاف العائلات التي تركت بيوتها كي تنجو من سطوة الحرب، حاملةً معها سنوات من التعب والكفاح، وجدت نفسها اليوم داخل خيام وحاويات تتناوب عليها الرياح والغبار، وكأنّها عقوبة أخرى لا تسترها أكوام الطرابيل (أغطية وسواتر).
 
في غياب الدولة، تحضر المنظمات بإمكانات محدودة وتمويل شحيح، لا سيما في الوقت الراهن، فتتزاحم في رأسك الأسئلة: ماذا لو لم تكن هذه المنظمات موجودة؟ هل كانت الدولة أو ما تبقّى منها ستتولى رعاية هؤلاء؟ 

هل كانت ستؤمّن لهم حياة تكفيهم الركض المستمر والوقوف الطويل في طوابير الإغاثة؟

أسئلة لا تبحث عن إجابة بقدر ما تكشف هشاشة البنية التي يُفترض أن تعمل على حماية الناس، لتذكّرك بأنّ كلّ مدينة يمنية إن لم تتواجد فيها المخيمات، ستتشابه بالمآسي، وإن اختلفت المسمّيات.

تجوب بين خيمة وأخرى، ومن حاوية من الزنك إلى شبكٍ من الحديد، لتلتقي نظراتٍ تسألك بصمت: ماذا ستقدّم لنا وأنت تحصي عدد مرّات نزوحنا؟ ما الذي يساوي كلّ هذه السنوات المهدورة في النزوح المتكرّر والبحث عن الكفاف؟

تتجلّى المفارقات أمامك بوضوح مؤلم، شكل الدولة ما يزال حاضرًا في وجدانهم وهم يناشدونها، لكنهم غائبون عن حساباتها. نساء ما زلن يحملن بطاقات انتخابية مضى عليها ما يقارب عشرين عامًا بدلًا من بطائق شخصية، في مشهدٍ يلخّص دولةً غابت وبقيت رموزها الورقية شاهدًا على تناقضها الفادح.
 
ثم ترى مشهدًا آخر يُثير الغضب أكثر من الشفقة؛ على ارتفاع بسيط، تُبنى فلل فاخرة بتصاميم دقيقة ومُبهرة، وأسفلها وعلى بعد أمتار فقط، تمتدّ أرضٌ منبسطة يُشار إليها باسم مخيّم حديث، مشهد لا يدهشك بقدر ما يعرّيك من كلّ مبرّر للصمت، فالفارق بين الصعود والهبوط هنا ليس في المسافة، بل في العدالة الغائبة!

تسير بين المخيمات، تستبصرك الأعين، وتقودك أصوات النداء وتلويحات الأطفال، ثم حين تمرّ بينهم لن تحتاج اليد التي تشدّها امرأة نازحة مُسنّة لتُريك المأوى الذي تعيش فيه، أن تكون شاهدًا أكثر من عينيك، يكفي أن تضع قدمك على عتبة الباب، الباب المصنوع من قطعة طربال، لتفهم كلّ شيء. 

فما الذي يمكن أن تُخفيه كرفانة الزنك، وهي بهذا القدر من العراء والوضوح؟

تُسجّل عشرات القصص المُتشابهة في تفاصيلها وحكاياتها، عن معلّمين شيّدوا خيمة ليواصلوا تعليم أبنائهم وجيرانهم، وعن عائلاتٍ اضطرت إلى مغادرة منازل الإيجار لعجزها عن الدفع فاتخذت من الخيام بديلًا عن الشقق، وعن جرحى الجيش الذين فقدوا أقدامهم ورواتبهم وتعويضاتهم، وباتوا وحيدين بأيدٍ معلّقة في الهواء يثبّتون بها أوتاد خيامهم.

إنها حكايات عن حياة سُلبت منهم، وتركتهم شهودًا على وجعٍ لا يُرى، وجعٍ يشبه البلاد التي أنجبتهم تمامًا، نصفها ينهض، ونصفها الآخر يُعاد ترميمه كلّ يوم.

في مأرب، كما في اليمن كلّه، تتجاور المدن والخيام، كما يتجاور الضوء والخذلان، وكأنّ البلاد تحاول أن ترى نفسها في المرآة فلا تجد سوى نصف وجه.

إجلال البيل
كاتبة يمنية.