Logo

عجزان لا يصنعان دولة

 تعجز الدولة اللبنانية عن مواجهة "حزب الله" فيما يعجز الحزب عن مواجهة إسرائيل، والنتيجة عجز مزدوج ينعكس على مصير بلد لا يعرف طريقاً للخروج من مآزقه.

تسود حال العجز هذه منذ اتفاق وقف النار بين إسرائيل و"حزب الله" الموقع برعاية أميركية قبل 11 شهراً. وهذا الاتفاق لم تحترمه إسرائيل ويرفض موجباته الحزب المذكور، 

وانتهى به المطاف إلى طلب تطبيقه من دولة عاجزة عن استعادة قرارات السلم والحرب، ومن ميليشيات "متقاعدة" لحقت بها هزيمة ماحقة،

 بعد أن اعتادت شن الحروب في "الساحات" شتى تحت عنوان المقاومة، لتعجز الآن عن ممارسة هذه المقاومة في المكان المفترض، أي ضد الاحتلال الذي يواصل قتل عناصرها وضرب مواقعها واحتلال شريط من القرى الحدودية.

 وهي، بدلاً من ذلك، لا تمارس سوى مقاومة ضد الدولة التي يفترض فيها محاولة إصلاح ما أفسدته على مدى عقود.

ولم تعُد إسرائيل على جدول الأعمال اليومي لـ"حزب الله" كهدف تنبغي ملاحقته والرد على احتلاله واعتداءاته، بل صارت مجرد لازمة يجري تردادها خلال بيانات الحزب وخطابات قادته وقادة قيادته في طهران. 

وهذا الترداد يتم لتبرير التمسك بالحال المسلحة والتنظيم العسكري المستقل، أي استمرار دولة "حزب الله" داخل الدولة اللبنانية وفوقها، وابتلاعها تدريجاً.

وفي الواقع أنهى "حزب الله" مهمة سلاحه ضد "العدو" بموجب اتفاق الـ27 من نوفمبر (تشرين الثاني) عام 2024، وهو منذ ذلك الوقت لم يطلق رصاصة واحدة ضد قوات الاحتلال، ولم يحرك صاروخاً في وجه مئات الغارات الجوية الإسرائيلية التي اصطادت نحو 300 من أعضائه خلال أقل من عام. 

ومع ذلك، هو لا يريد الاعتراف بلا جدوى تجربته المريرة، ويواصل تمسكه بالسلاح وإعادة بناء ما خسره في بنيته التنظيمية والمادية، رافضاً ما نص عليه اتفاق الاجراءات المنبثق من القرار 1701 وجوهره حصر للسلاح بيد السلطات اللبنانية الشرعية وحدها.
 
نسيت "مقاومة حزب الله" الاحتلال ووجهت سهامها وبقايا سلاحها ضد الدولة اللبنانية بمؤسساتها الدستورية والأمنية. ولم يعُد الحديث عن بنيامين نتنياهو وأفعاله مهماً. 

وصار الضخ اليومي ضد رئيسي الجمهورية والحكومة عملاً "مقاوماً" وحيداً لدى أنصار الميليشيات وقادتها لأنهما قادا عملية إنضاج وإصدار قرار حصر السلاح ضمن خطة زمنية محددة المراحل.

الصمت تجاه الاحتلال وممارساته، والصخب ضد أكثرية اللبنانيين ودولتهم يطرحان السؤال مرة أخرى عن أهداف الحزب المسلح، ماذا يريد وماذا يراد منه؟

في الحسابات الداخلية يستثمر الحزب في الانقسام المذهبي والطائفي إلى الحدود القصوى، متخطياً مقولة مواجهة الاحتلال ومتستراً بها ليفرض انقساماً داخلياً عمودياً لا علاج له بغير صدام لا يريده الآخرون، 

ويعتقد "حزب الله" بأنه قادر من خلاله على تثبيت سلطته ووزنه الكاسح بفعل ترسانته على حساب شعب بطوائفه المتنوعة وجهاته المختلفة.

لكن هذا التفسير وحده لا يكفي، فللحزب الإيراني الولاء والتمويل مهمات أخرى أساسية كجزء من خطوط الدفاع الإيرانية التي أسسها نظام الملالي في عدد من الدول العربية. 

وخلال كلمته الأخيرة عشية ذكرى مقتل الأمين العام حسن نصرالله، أوضح المرشد الإيراني علي خامنئي للمرة الألف مدى أهمية "حزب الله" بالنسبة إلى طهران. 

فالحزب الذي اعتبره المرشد يوماً "درة تاج" الإمبراطورية الخمينية، هو الآن "ثروة للبنان وإيران" معاً، وبديهي بالنسبة إلى إيران ومرشدها أن قيمة هذه الثروة هي في أنها مدججة بسلاح لا يمكن المساس به، دفاعاً عن السياسة الإيرانية في أحلك ظروفها خلال هذه الفترة، وانتظاراً للمهدي كما تقول أدبيات الملالي.

تريد إيران أن يبقى حزبها المسلح على ما هو عليه بمعزل عن الحاجة إليه في مقارعة الاحتلال أو قدرته على ذلك، 

وهي تدفعه إلى رفض كل محاولات قيام الدولة في لبنان بتنفيذ برنامجها الخاص حول تدعيم المؤسسات الرسمية، ليبقى سلاحه عنصراً في صدام أهلي مفتوح، تعجز الدولة أمام احتوائه، مثلما يعجز هو عن أداء شعائره في مقاومة قام من أجلها كما يقول.

منذ ثمانية عقود كتب المفكر اللبناني جورج نقاش في وصف الحال اللبنانية المشتتة، قائلاً "نفيان لا يصنعان أمة". ولا يزال هذا التوصيف حياً ويضاف إليه اليوم، "عجزان لا يصنعان دولة، بل ساحة مفتوحة للآخرين".

طوني فرنسيس 
إعلامي وكاتب سياسي لبناني