الانزلاق في اليمن من "إدارة الأزمة" إلى "تطبيعها"
أتصور أنه في كل مرة يستدعى فيها الحديث عن اليمن، يطل المشهد محملاً بتعقيداته التي لا تنفك تتشابك بين الماضي والحاضر، بين الشرعية والانقلاب، وبين الطموحات المتباينة لشركاء يفترض أن يجتمعوا على مشروع الدولة.
غير أن المعضلة في اعتقادي لم تعد في الصراع المعلن مع الحوثية فحسب، بل في الشرخ العميق داخل بنية الشرعية ذاتها، إذ تتقاطع الخطابات وتتعارض المشاريع، فتتكشف بجلاء أزمة وطن يواجه اختبار المعنى قبل اختبار السلطة.
فضلاً عن ذلك، ليس من السهل النظر إلى المشهد اليمني بمعزل عن تراكمات الماضي وضغوط الحاضر وإرهاصات المستقبل. فالوضع في اليمن لم يكن يوماً بسيطاً،
بل كان ولا يزال معقداً، يتشابك فيه ما هو تاريخي بما هو سياسي، ويتداخل فيه ما هو داخلي بما هو إقليمي ودولي. وكلما مر الوقت، ازداد هذا التعقيد عمقاً وتشابكاً،
حتى غدا من الصعب الحديث عن مسار واضح يضمن استعادة الدولة من دون أن نصطدم بعقبات بنيوية تتعلق بطبيعة القوى المتصارعة وأهدافها المتناقضة.
وعندما تأسس مجلس القيادة الرئاسي خلال السابع من أبريل (نيسان) 2022، كان الأمل أن يشكل ذلك خطوة انتقالية نحو استعادة الدولة من قبضة الميليشيات التي انقلبت عليها بقوة السلاح خلال الـ21 من سبتمبر (أيلول) 2014.
غير أن الواقع أظهر، مع مرور الوقت، أن المجلس لم يتحول إلى جسر عبور وطني كما كان مأمولاً، بل إلى ساحة تثبيت للانقسام القائم وتجذيره، مما يطرح سؤالاً فلسفياً أعمق، هل يمكن لجسم سياسي متشظ في داخله أن يكون أداة لإعادة بناء الدولة؟
في هذا السياق، فإن المشاركة الأخيرة للوفد اليمني في اجتماعات هيئة الأمم المتحدة بنيويورك، برئاسة رئيس مجلس القيادة الرئاسي رشاد العليمي وعضوية عيدروس الزبيدي وعبدالله العليمي،
لم تكشف فقط عن حجم الصراع الوجودي مع الحوثية، بل أظهرت أيضاً حجم الصراع الكامن داخل الشرعية نفسها،
إذ بينما قدم رئيس المجلس خطاباً يحاول رسم صورة موحدة لكيان سياسي يتبنى قيم الشراكة والهدف الواحد باتجاه استعادة الدولة ممن انقلب عليها بقوة السلاح،
كان أحد أبرز أعضائه، الزبيدي، يعلن في الصحافة الغربية أن الحل الأمثل لليمن هو "حل الدولتين، سواء من خلال استفتاء أو اتفاق. الواقع (على الأرض) هو أن هناك دولتين من الناحية العسكرية والاقتصادية".
هنا تتجسد المفارقة على نحو جلي، خطاب يوحد في المحفل الأممي خلافاً لما هو ماثل على الأرض، وصوت يشرعن الانقسام، خلال الوقت ذاته، اتساقاً مع ما هو قائم على الأرض.
هذه المفارقة الجلية لا تقف عند حدود الأمم المتحدة. ففي حين كان العليمي يؤكد عبر خطاب رسمي بمناسبة الذكرى الـ63 لثورة الـ26 من سبتمبر 1962، ألقاه نيابة عنه عضو المجلس الرئاسي عثمان مجلي أن الجمهورية ليست مجرد ذكرى بل "نبض خافق في كل قلب"،
خرج الزبيدي مجدداً ليصرح لصحيفة أجنبية أخرى بأن "الجنوبيين يعدون أنفسهم مستعدين للاستقلال. الجنوب محرر ونحن نحمي حدودنا، سياسياً وجيوسياسياً (نحن مستعدون) وكل ما نحتاج إليه هو إعلان الاستقلال،
وأن يعترف بنا الآخرون. إعلان دولة الجنوب المستقلة سيمهد الطريق لإقامة علاقات مع إسرائيل. جميع الظروف مهيأة لإقامة الدولة. الانفصال سيسمح للجنوب باتخاذ قراراته الخاصة في السياسة الخارجية بما في ذلك خيار الانضمام إلى اتفاقات أبراهام".
هذا التباين العلني الصارخ لا يشي فقط بخلاف سياسي داخلي عميق، بل بوجود مشروعين متوازيين يصعب الجمع بينهما، مشروع استعادة الدولة الواحدة، ومشروع تأسيس دولة أخرى من داخل الدولة.
في اعتقادي اليقيني إن ما يجري يضعنا أمام حقيقة لا يمكن القفز عليها، الصراع في اليمن لم يعد مجرد مواجهة بين الشرعية والحوثية، بل بات صراعاً مركباً يتخلله نزاع داخلي عميق داخل الشرعية نفسها، إذ تتعايش مكونات متعارضة التوجهات والأهداف في كيان واحد.
وعليه يبرز سؤال جوهري أكثر أهمية، هل يمكن أن تستعيد الدولة وحدتها من خلال أداة منقسمة على ذاتها؟
في هذا السياق الشائك شديد التعقيد، خصوصاً في ظل صمت عدد من أعضاء مجلس القيادة الرئاسي وجلوس رئيس وأعضاء مجلس النواب على مقاعد المتفرجين وكأن الأمر لا يعنيهم وحالهم كحال معظم من يتصدر المشهد السياسي في جبهة الشرعية اليمنية المعترف بها إقليمياً ودولياً غير مؤثرين أو لا يحركون أدنى ساكن،
تغدو عدن، العاصمة الموقتة للجمهورية اليمنية، أكثر من مجرد مدينة مثقلة بالخذلان والتيه، إنها مرآة تعكس أزمة وطنية أعمق مما يمكن تصورها.
فالمأزق الذي تعيشه عدن ليس جغرافياً أو إدارياً فحسب، بل هو علامة على مأزق الدولة نفسها، دولة تبحث عن المعنى قبل أن تبحث عن السلطة.
إن إخفاق الشرعية في تقديم نموذج مختلف في عدن يعني أن التحدي يتجاوز الميليشيات الحوثية ليطاول جوهر فكرة الدولة ذاتها.
والخطورة هنا في تصوري لا تكمن في الوقائع المباشرة فحسب بل في انعكاساتها المستقبلية، إذ حين يتحول منطق التنازع إلى قاعدة، يصبح من الطبيعي أن تتآكل إمكانات التوحيد من أجل استعادة الدولة لمصلحة ترسيخ الانقسام.
وحين تتعطل الإرادة الاستراتيجية الوطنية يفسح المجال لخطابات التبرير التي تملأ الفراغ وتغطي على العجز بالفعل السياسي. وهكذا يتكرس الانزلاق من "إدارة أزمة" إلى "تطبيع أزمة".
في قلب هذه الصورة يبدو أن السلطة لم تعد وسيلة للإنقاذ، بل تحولت شيئاً فشيئاً إلى "مسرح انقسام" ينتج تنازعاً داخلياً يتجاوز السياسة إلى البنية العميقة للدولة.
والخطر أن هذا المسرح، إذا استمر، سيفضي في النهاية إلى "صدام مسلح" بين شركاء الأمس مثلما أشرت إلى ذلك في مقالة سابقة لي في "اندبندنت عربية"، وهو ما قد يفتح الباب على احتمالات كارثية ليس فقط لليمن، بل للمنطقة كلها.
إن ما نحتاج إليه اليوم ليس خطاباً متفائلاً يعلو فوق الحقائق كما يفعل بعضهم، ولا نزعة انفصالية تقطع مع فكرة الدولة من جذورها كما يفعل بعضهم الآخر، بل رؤية وطنية جديدة تتجاوز ثنائية الشعارات والوعود.
رؤية تنطلق من حقيقة أن الدولة ليست مجرد كيان سياسي، بل هي فكرة جامعة تستمد معناها من القدرة على حماية الناس وبناء المؤسسات للقيام بما عليها من مهام كما يجب أن تقام. من دون ذلك، ستظل كل المشاريع الأخرى مجرد أوهام تتنازع على أطلال وطن.
وهكذا، فإن السؤال الموجع الذي يطرح نفسه بإلحاح، هل نسير – أو نُساق – نحو ما لا يحمد عقباه؟
في اعتقادي الإجابة ليست قدراً محتوماً، لكنها مرهونة بقدرة القوى الوطنية على إعادة تعريف ذاتها وتجاوز تناقضاتها من خلال النظر بتمعن وحكمة إلى ما يحدث، قبل أن يصبح التصدع الداخلي أخطر مما هو ماثل على الأرض.
إن المسألة الجوهرية لا تتعلق بتعدد الخطابات داخل الشرعية بقدر ما تتعلق بقدرتها على تحويل التنوع إلى قوة جامعة، لا إلى تنازع مفضٍ إلى الانهيار.
فإذا ظلت المشاريع تتناحر داخل الكيان ذاته، فإن كل خطاب عن استعادة الدولة سيظل بلا مضمون.
وحدها الرؤية الوطنية الجامعة، التي تعيد الاعتبار لفكرة الدولة بوصفها الضامن للناس والمعنى من دون تكرار أخطاء الماضي أو العمل على إعادة إنتاجها بصور جديدة، يمكن أن تحصن اليمن من السقوط في فراغ بلا نهاية.
سامي الكاف
صحافي وكاتب يمني