الغرب والشرق: ازدواجية النفاق
كلنا في الهم شرق، كما قال الشاعر، لكن الهم ليس واحداً، فلا الشرق كتلة منسجمة تنام على مخدة التاريخ تحت لحاف واحد، ولا الغرب كتلة صماء محددة بالجغرافيا، والتعابير الشائعة اليوم تبدو مثقلة بحمولة أيديولوجية بعد نهاية الأيديولوجيا.
ففي "محور الممانعة" الذي يضم جماعة الأيديولوجيا الدينية وبقايا من اليسار إصرار على توصيف الغرب بأنه "الغرب الجماعي"، ونخبة الغرب مصرّة على جمع الصين وروسيا وإيران وكوريا الشمالية وفنزويلا ونيكاراغوا ضمن "محور الاضطراب" وحتى "محور الشر".
وليس تعبير"الجنوب العالمي"سوى ثوب فضفاض مفصل سياسياً على جسد افتراضي، فما الذي يجمع بين حال أفغانستان تحت حكم "طالبان" وبين جنوب أفريقيا وتراث مانديلا؟
وأي شرق هذا الذي يجمع بين دول نووية لدى بعضها طموحات إمبريالية، وبين بلدان عاجزة عن تأمين الخبز والدواء والمسكن لأهلها؟ وكيف يمكن أن يصبح الغرب، حيث التباين بين دولة واختلاف التيارات داخل كل دولة "الغرب الجماعي"؟
الكبار يتحدثون عن "عصر اللايقين"، وأصحاب الأجوبة الجاهزة يخدعون أنفسهم بتصوير العالم كأنه كتاب مفتوح أمامهم، فالعالم أشد تعقيداً من فهمه بالأجوبة الجاهزة وحتى بالأسئلة الدقيقة، والنظرة الأحادية إلى الأمور هي هرب من رؤية الحقائق من الزوايا الأربع، فلا ما كشفته حرب غزة هو فقط "زيف أخلاقيات" الغرب وديمقراطيته، وسط الحراك في الجامعات والشارع في أميركا وأوروبا من أجل القضية الفلسطينية،
ولا ما كشفته حرب أوكرانيا هو فقط ازدواجية المعايير لدى روسيا ومن يدافع عنها، فالظلم واحد على شعب فلسطين وشعب أوكرانيا، ومن يتحدث عن الظلم في مكان ولا يراه في مكان آخر يدافع عملياً عن أسوأ ما في العالم.
ومن حق أي طرف في الشرق أن يسخر من نفاق الغرب وديمقراطيته، لكن من واجبه أن يتطلع حوله ويسأل: أي ديمقراطية بديلة في الشرق؟ وما هو النموذج الجذاب في الصين وروسيا وكوريا الشمالية وإيران ونيكاراغوا وفنزويلا؟
أيام الاتحاد السوفياتي كان هناك بديل أيديولوجي واقتصادي وأخلاقي وعسكري من النظام الليبرالي في الغرب، فما هو البديل اليوم، بصرف النظر عن النقص ونقاط الضعف في الغرب،
كما عن سياساته الداعمة لإسرائيل؟ وما علاقة روسيا التي يحكمها فلاديمير بوتين ويسعى إلى التوسع على طريقة القياصرة بالاتحاد السوفياتي وكل تراث ماركس وإنفلز ولينين وستالين؟
وهل تريد الصين المحكومة من الحزب الشيوعي نشر عقيدتها في الخارج إضافة إلى التشديد عليها في الداخل، ولا سيما في عصر الرئيس شي جينبينغ؟
أم أن الأولويات لديها هي للاقتصاد والتجارة ومد النفوذ عبر مشروع "الحزام والطريق"؟ وماذا لدى إيران سوى أيديولوجيا دينية محصورة في مذهب واحد وسط أزمة اقتصادية وقمع حريات؟
ومَن مِن الذين يدافعون عن إيران وكوريا الشمالية يريد العيش في طهران أو بيونغ يانغ؟
أستاذ القضايا العالمية في "مدرسة الدراسات الدولية المتقدمة" في جامعة جونز هوبكنز البروفسور هال براندز يسأل: "هل تستطيع أميركا في عصر اللاأخلاقية إنقاذ العالم الليبرالي عبر اللاليبرالية؟"،
والجواب جاء في دراسة خلاصتها أن "إستراتيجية قوة عظمى ليبرالية هي فن توازن القوى من دون تجاوز المقاصد الديمقراطية، وستكتشف أميركا كم أن ذلك صعب"، والثيولوجي رينهولد نايبور قال "كم من الأمور الشريرة علينا أن نفعلها من أجل أن نعمل شيئاً جيداً؟"،
والمعادلة في"عصر اللاأخلاقية" هي أن الطريقة الوحيدة لحماية عالم ملائم للحرية تبقى التودد إلى شركاء قذرين والدخول في أعمال قذرة"، وما كانت هذه المعادلة سوى استثناء قبل وصول العالم إلى نقطة انعطاف، ففي عام 1940 أعلن وزير الخارجية الألماني أيام هتلر، جواكين فون ريبنتروب، أن "الحرب العالمية الثانية ليست عرضية بل قضية تصميم نظام على تدمير نظام آخر"،
أما الرئيس الأميركي هاري ترومان الذي قصف هيروشيما وناغازاكي بالقنابل الذرية فإنه لم يتردد في القول إن "أميركا شنت الحرب الباردة كصراع بين طرق بديلة للحياة".
بعد الحرب الباردة قيل إن صراع المصالح حل مكان صراع العقائد، لكن الصراع على المصالح ليس أقل خطورة من الصراع على العقائد، وهذا هو الدرس الذي تعلمناه خلال القرن الـ19، حيث الصراع بين القوى الأوروبية على النفوذ والمستعمرات وكل ما يخدم المصالح، وهذا هو الدرس الذي كان أمامنا في القرن الـ 20 حيث صراع العقائد والمصالح معاً،
إذ سقطت أنظمة في الحرب العالمية الأولى بينها الإمبراطورية النمسوية - المجرية والسلطنة العثمانية، وسقطت النازية والفاشية والـ "عسكريتاريا" اليابانية في الحرب العالمية الثانية، وسقط الاتحاد السوفياتي والمعسكر الاشتراكي في الحرب الباردة.
وأخطر ما يحدث اليوم هو دمج المصالح بسياسات الأمن القومي ليبدو كل صراع وكأنه مصيري، فحرب أوكرانيا صارت صراع وجود بين روسيا الخائفة من تمدد الـ "ناتو" إلى بابها وأوكرانيا الراغبة في الانضمام إلى الـ "ناتو" والاتحاد الأوروبي،
وحرب غزة بالنسبة إلى "حماس" وحكومة نتنياهو حرب وجود، فـ "حماس" تقاتل لتحرير فلسطين من البحر إلى النهر مهما طال الزمن وكبرت التضحيات، ونتنياهو الذي راهن على "حماس" في الماضي لمواجهة السلطة الوطنية في الضفة الغربية والحؤول دون قيام دولة فلسطينية يرى أن القضاء على "حماس" يسحب ورقة فلسطين من يد إيران وينهي مشروع التحرير، ويسمح له بضم الضفة الغربية لقيام دولة إسرائيلية واحدة من البحر إلى النهر، والحرب على إيران هي حرب وجود.
ومن هنا الازدواجية، فحكومات الغرب التي تدعم أوكرانيا ضد روسيا وتندد بالهجمات الروسية على المدن الأوكرانية تغمض عيونها عن جرائم إسرائيل في غزة ولبنان والتي ترقى إلى حرب إبادة، و"محور الممانعة" يركز على حرب الإبادة في غزة ويهلل لتقدم روسيا في أوكرانيا، وكم كان كونفوشيوس حكيماً في القول "تجنب إعادة المعنى إلى الكلمات".
رفيق خوري
كاتب لبناني