السلطة الشرعية في اليمن حين تتحول إلى مسرح انقسام
أتصور أن الأزمة في عدن ليست مجرد تعبير عن خلل إداري أو سياسي عابر، بل انعكاس عميق لفجوة كبيرة لا تزال تتسع بين صورة الدولة وجوهرها،
ففي اللحظة التي يفترض أن تتجسد فيها العاصمة الموقتة في اليمن مركزاً لقرار وطني جامع على طريق الوصول إلى حل سياسي شامل وعادل ومستدام، تتبدى ملامحها كفضاء معلق بين شكل حاضر وجوهر غائب،
إذ تبدو المؤسسات قائمة بالاسم، فيما يتآكل معناها بالفعل، وعليه لا يعود السؤال في اعتقادي محصوراً في غياب الخدمات أو ارتباك الأداء فضلاً عن ضعفه، بل يتجاوز إلى المسألة الفلسفية الأعمق:
كيف يمكن لدولة أن تستعاد إذا ما انقسمت مرجعيات القرار إلى مراكز متنازعة تناطح بعضها بعضاً وتعيد إنتاج الفراغ نفسه الذي يفترض أن تملأه؟
في الواقع إن ما يجري في عدن بوصفها العاصمة الموقتة للجمهورية اليمنية ليس مجرد مأزق مدينة مثقلة بالخذلان، بل هو علامة على أزمة وطن يواجه امتحان المعنى قبل امتحان السلطة،
إذ تختبر إمكانية قيام الدولة في صراع لا يدور فقط بين الشرعية والحوثية، بل أيضاً داخل الشرعية نفسها بمكوناتها متعارضة الأهداف والتوجهات.
دعوني أدخل في صلب الموضوع وأكتب: في عدن، تتكشف المفارقة المأسوية بين حضور صوري لسلطة غائبة في جوهرها، ومؤسسات تدار عن بعد كأنها مجرد واجهة صورية، فيما المواطنون يعيشون تماساً يومياً مع الجوع والعتمة والخذلان،
هكذا تتحول المدينة إلى شاهد على فراغ السلطة لا بوصفه مجرد غياب مادي، بل مأزقاً بنيوياً يكشف عن عجز مشروع الدولة عن التشكل في مواجهة ميليشيات سلالية مسلحة تعيد تنظيم صفوفها كما لو أن الزمن يعمل لصالحها لا ضدها،
فالمشهد لا يقتصر على ما يعيشه الناس من معاناة اقتصادية أو خدمية، بل يتجاوز ذلك إلى ما هو أعمق: انكشاف الصورة المفترضة لعاصمة موقتة يفترض أن تكون مركز القرار أمام واقع لا يعترف بهذه الفرضية.
رئيس مجلس القيادة الرئاسي وأعضاؤه لم يجعلوا من قصر معاشيق مقراً دائماً لاجتماعاتهم، ومجلس النواب يظل عاجزاً عن الانعقاد في المدينة وكأنما راق له الجلوس على مقاعد المتفرجين، والحكومة تبدو كما لو أنها تدير الملفات من خارج تماسها المباشر مع المواطنين،
بينما تتسع فجوة الفقر وتبهت الآمال حتى مع التحسن النسبي في سعر العملة، إذ تظل كثير من الأسعار على حالها وكأن منطق السوق منفصل عن منطق الدولة.
هذه الهوة بين الخطاب المعلن والواقع الماثل على الأرض، لم تعد مجرد فجوة في الأداء، بل تحولت إلى أزمة في المعنى، إذ يغدو الوطن نفسه غريباً عن مواطنيه، ويضمحل الإيمان بقدرة المؤسسات على التغيير،
فيما الحوثية، بوصفها ميليشيات منقلبة على الدولة بقوة السلاح، تواصل إعادة التموضع بدعم إيراني سياسي وعسكري وتقني متماسك، مما يضاعف الفارق بين طرف متمرد يبدو أنه يعرف ما يريد،
وطرف شرعي معترف به إقليمياً ودولياً لا يزال يفتقر إلى بوصلة عمل وطني استراتيجي.
في خضم هذا السياق المأزوم، المشار إليه أعلاه، جاءت خطوات عضو مجلس القيادة الرئاسي عيدروس الزبيدي الأخيرة لتفضح عمق الأزمة البنيوية داخل المجلس الرئاسي ذاته، فقد قام مساء الـ10 من سبتمبر (أيلول) 2025 بممارسة صلاحيات رئيس مجلس القيادة الرئاسي رشاد العليمي ورئيس مجلس الوزراء سالم بن بريك في آن،
إذ أصدر وفق ما نشره الموقع الإلكتروني للمجلس الانتقالي الجنوبي ما سماه القرار رقم (1) لعام 2025 في شأن تعيين محمد ناصر عبادي رئيساً للهيئة العامة للأراضي والمساحة والتخطيط العمراني،
في وقت كان رئيس مجلس الوزراء أصدر بتاريخ الـ30 من أبريل (نيسان) 2025 قراراً قضى بتكليف سالم ثابت العولقي رئيساً للهيئة.
أما بقية قرارات التعيين، وعددها 12، فقد جاءت ضمن صلاحيات رئيس مجلس القيادة الرئاسي، أحدها قضى بتعيين نائب لوزير الإعلام والثقافة والسياحة، فيما توزعت بقية القرارات التي قضت بتعيين عدد من الوكلاء بين عدد من الوزارات وعدد من المحافظات.
إن ما حدث لا شك سابقة خطرة تكشف عن أن المرجعية التي أرساها إعلان نقل السلطة في السابع من أبريل 2022 لم تعد كافية لضبط إيقاع السلطة، وأن الموازين الفعلية باتت تفرض نفسها من خارج النصوص،
وما يزيد الأمر وضوحاً أن هذه القرارات جاءت مباشرة بعد عودة رئيس المجلس الرئاسي رشاد العليمي ومعه عضوان بارزان هما سلطان العرادة وعبدالله العليمي إلى عدن العاصمة الموقتة للجمهورية اليمنية، بما يجعلها أقرب إلى رسالة تحد سياسية مقصودة تؤكد أن سلطة القرار لم تعد حكراً على رأس المجلس.
في الواقع لم يكن الأمر مجرد تنازع في الصلاحيات، بل فعل يشي بإعادة تعريف السلطة من داخلها، وكأنه إعلان ضمني بأن التوازنات لا تدار وفق مبدأ القيادة الواحدة، بل عبر تعدد المراكز وتوزع النفوذ، وهو ما يحول الكيان الرئاسي من أداة لتوحيد القرار إلى ساحة لتكريس الانقسام.
وفي حين يتساءل كثر ما الذي سيفعله رئيس المجلس الرئاسي رشاد العليمي وأعضاء المجلس سلطان العرادة وعبدالله العليمي وعثمان مجلي لمواجهة ما حدث (ويستثنى من هذه المواجهة فرج البحسني وعبدالرحمن المحرمي باعتبارهما نائبين لرئيس المجلس الانتقالي الجنوبي،
واكتفى طارق صالح بالصمت، لكن إعلامه راح يؤيد ما قام به رئيس الانتقالي)، وما إذا كان بمقدور عيدروس الزبيدي التراجع عن قراراته غير القانونية،
يتبدى لي، في الحين ذاته، أن هذا المشهد غير المسبوق لا ينذر بخلاف إداري عميق فحسب، ليس لأن رئيس الهيئة السياسية بالمجلس الانتقالي الجنوبي أكد في تصريح لقناة "عدن" التابعة للمجلس الانتقالي في الـ12 من سبتمبر الجاري أنه "لا تراجع عن قرارات (الرئيس) الزبيدي، وبعضها بدأ تنفيذه فعلاً وأي رفض لهذه القرارات يعتبر عرقلة للشراكة،
وسيواجه المجلس الانتقالي أية عرقلة للقرارات بالطرق المناسبة لحماية حقوق شعب الجنوب والدفاع عن مصالحه"، بل ولأن هذا المشهد غير المسبوق، المشار إليه أعلاه، يطرح سؤالاً أعمق حول ماهية الدولة ذاتها، وهل نحن أمام سلطة قادرة على ترميم بنيتها واستعادة حضورها وفق الدستور والقوانين النافذة،
أم أمام نموذج متشظ يعيد إنتاج غياب الدولة تحت ستار مؤسسات قائمة شكلاً؟
هنا يطل البعد الفلسفي لهذه المسألة الصعبة شديدة التعقيد: فالصورة لا تزال قائمة، لكن الجوهر يتآكل، والمظهر يبدو متماسكاً، لكن الداخل يتفتت، وما يحدث في عدن ليس مجرد تنازع سياسي على حلبة مصارعة، بل عملية تفتيت متواصلة لتجريد مفهوم الدولة من معناه، بحيث يغدو الشكل غطاء لفراغ،
والفراغ فرصة لتكريس قوى موازية تصنع لنفسها شرعية أمر واقع على رغم أنف الدستور والقوانين النافذة، ومعها تتضاءل نسبة استعادة الدولة ممن انقلب عليها بقوة السلاح لتقترب من مستوى الصفر.
في الواقع إن أخطر ما في هذه التطورات المتسارعة لا يكمن فقط في آثارها المباشرة، بل وفي انعكاساتها على المستقبل، إذ حين يتقدم منطق التنازع على منطق التوحيد، تتحول السلطة من وسيلة إنقاذ إلى "مسرح انقسام" سيقود في نهاية المطاف إلى "صدام مسلح"، وحين يغيب الفعل الوطني الاستراتيجي يحضر خطاب التبرير ليملأ الفراغ.
وفي هذه اللحظة الحرجة يصبح السؤال الموجع الأكثر إلحاحاً: هل ما زال بالإمكان بناء دولة من داخل هذا الكيان المتنازع؟ أم أن الحاجة صارت تستدعي مقاربة جديدة تعيد تعريف الشرعية ذاتها، لا بوصفها مجرد اعتراف خارجي، بل باعتبارها قدرة حقيقية على الفعل الحاسم واستعادة المعنى؟
سامي الكاف
صحافي وكاتب يمني