Logo

اليمن "يحرر أحد ملوكه المختطفين" في باريس

 بعد خمسة أعوام من المتابعات والتقاضي وشهادات خبراء التاريخ، تمكنت الحكومة اليمنية من استعادة تمثال نادر لـ"ملك قتبان" المعروف باسم "شهر هلال"، إضافة إلى 15 تمثالاً حجرياً ورخامياً ولوحاً جنائزياً من السلطات الأمنية الفرنسية.

وأعلن سفير اليمن لدى منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (يونيسكو) محمد جميح أن التمثال الملكي ’شهر هلال‘ والقطع الأخرى نقلت فعلياً إلى ملكية الحكومة اليمنية ووضعت تحت تصرفها في مكان مخصص بالعاصمة الفرنسية باريس، وفق طلب تقدمنا به إلى حين عودة الأمن والاستقرار لليمن واستعادة المتاحف لدورها".

ماراثون قضائي

وأوضح جميح أن هذه "الاستعادة جاءت بعد جهود من المتابعات وإجراءات التقاضي وسلسلة من الاجتماعات بين المسؤولين اليمنيين والجانب الفرنسي"، شملت في إحداها "لقاء جمع وزير الثقافة وسفير اليمن لدى باريس ومسؤولين فرنسيين ومحامين من جانبنا وجرى خلالها تقديم الوثائق والإثباتات اللازمة بما في ذلك بيان أصالة الأعمال الفنية الصادر عن عالمي الآثار سابينا أنتونيني وكريستيان جوليان روبن". 

وقال إن الوثائق "أظهرت عودة هذه القطع لحضارات اليمن القديمة شملت لوحات جنائزية وتماثيل حجرية ورخامية ترجع إلى الفترة بين القرن الرابع قبل الميلاد والقرن الأول الميلادي نهب معظمها من مناطق هجر كحلان في وادي بيحان المعروفة قديماً بـ’تمنع‘ والمواقع الأثرية في محافظة الجوف".

ومنطقة "تمنع" هي العاصمة القديمة لمملكة قتبان التي تعرف اليوم بهجر كحلان الواقعة على الضفة الشمالية من وادي بيحان التابعة لمحافظة شبوة (شرق اليمن) ومثلت خلال حضارات اليمن القديم واحدة من أبرز المدن ازدهاراً،

 إضافة إلى شهرتها كمركز تجاري مهم على "طريق اللبان والبخور" خلال العصور القديمة، وعقب عام 1994 تعرضت المنطقة التي تضم أطلالاً من بقايا مدينة مملكة قتبان لعمليات عبث ونهب للآثار.

ضبط روتيني

وأوضح جميح أن "القطع المستعادة ضبطت خلال تفتيش روتيني للشرطة الفرنسية عام 2020 وعندما طالبناهم بها طالبوا بإثباتات، مما جرى العمل عليه"، 

مضيفاً أن الحكومة اليمنية المعترف بها اتخذت سلسلة من الإجراءات لاستعادة هذه النفائس من بينها "الاستعانة بعلماء آثار إيطاليين أفادوا وأثبتوا بالفعل بأنها آثار يمنية، 

فضلاً عن توكيل محامٍ بالتنسيق مع المندوبية اليمنية في ’يونيسكو‘ والسفارة بباريس وفعلاً جرى الاعتراف بملكية بلادنا وأودعت القطع لدى إحدى المؤسسات الفرنسية لحفظها مع حق اليمن باستعادتها في أي وقت يشاء".

وفي ما يختص ببقاء هذه القطع في باريس يؤكد أنه "للحفظ حتى استتباب الأوضاع في اليمن وعودة عافية المتاحف اليمنية لعملها".

والملك "شهر هلال ذبيان يوهنعيم" يعد بحسب بعض النقوش آخر المكارب (الملوك) وأول ملوك دولة قتبان التي ظهرت في أول الأمر في وادي بيحان، وامتدت أراضيها منه شرقاً إلى البحر الأحمر غرباً، ومن أنحاء مدينة ذمار شمالاً، إلى البحر العربي جنوباً، 

وتفيد أحدث الأبحاث التي أجريت على نقش قتباني اكتشف حديثاً، أن مملكة قتبان خاضت حرباً ضد مملكة حضرموت وفي تلك الحرب ادَّعى القتبانيون أنهم دمروا أكثر من ثلاثمائة مدينة تابعة لحضرموت.

وفي نهاية عام 1999 توصلت بعثة أثرية إيطالية فرنسية إلى اكتشاف معبد قديم في تمنع يعود تاريخه إلى الفترة ما بين القرون الثلاثة قبل الميلاد والقرنين الأول والثاني بعد الميلاد، وهي فترة ازدهار مملكة قتبان، ومساحة المعبد تصل إلى 23.5 متراً،

 بالإضافة إلى أن المعبد المكتشف واسمه معبد يشهل كان مكرساً للمعبودية القتبانية "أثيره"، وقد قام على أنقاض معبد سابق يعود تاريخه إلى القرن السابع وربما الثامن قبل الميلاد.

جهود الجمع

في محاولة لجمع الشتات الأثري اليمني، قال السفير جميح إنهم وضعوا جملة من الخيارات لاستعادة مئات القطع الأثرية المهربة من البلاد، بعدما رصد بعضها معروضاً للبيع خلال مزادات تجارية في أوروبا.

وتبعاً للحرب ونتائج انقلاب الحوثي عام 2014، تعرضت الآثار اليمنية لعمليات نهب وتهريب ممنهج وأضحت تجارتها رائجة وتتم بصورة شبه علنية كما هي الحال في محافظات مأرب وشبوة والجوف وإب لأنها مناطق غنية بالمواقع الأثرية التي طمرت صحاريها حضارات عدد من الدول القديمة الكبرى مثل سبأ وحمير وأوسان وقتبان وحضرموت ومعين وغيرها.

هجر كحلان... نموذج ساطع للنهب

وباتت عمليات سرقة الآثار في اليمن مألوفة من قبل تجار متخصصين في هذا المجال بالتعاون مع سماسرة محليين، استغلالاً لغياب الرقابة الأمنية التي دفعت إلى تعرض غالبية المواقع لعمليات نهب وعبث ونبش عشوائي تسببت في ضياع النفائس التاريخية في اليمن،

 وتدليلاً على ذلك ما تشهده المواقع الأثرية في محافظتي شبوة ومأرب التي قامت على ترابهما ممالك عدة من أهمها قتبان وأوسان وسبأ وحضرموت، وهي ممالك سادت ثم بادت خلال فترات زمنية تراوح ما بين 3 إلى 4 آلاف سنة، إذ تتعرض مواقعها الأثرية لعمليات نهب عبر سماسرة محليين.

وفي حديث سابق إلى "اندبندنت عربية"، كشف المسؤول الأمني عن حماية الموقع الأثري في مدينة تمنع أمين دوّام عن أن منطقة الهجر الأثرية تعرضت في مراحل متعددة خلال العقود الثلاثة الماضية، للنهب والتجريف والسرقة من قبل نافذين وتجار آثار.

وقال دوام إن الاستهتار بالإرث اليمني القديم بلغ لدى لصوص الآثار حد الاستعانة بالجرافات بحثاً عن القطع الأثرية والعملات الذهبية القديمة التي تدر عليهم مبالغ طائلة جداً أو لتهريبها إلى الخارج".، 

مؤكداً "ضعف الدور الحكومي ومن أبرز جوانبه غياب الحماية الأمنية الكافية، مما شجع على تجريف التراث الإنساني اليمني".

وأوضح أن عدداً من المواقع من أبرزها مدينة شبوة القديمة وتمنع الأثرية التي تحوي مركز الدولة القتبانية وقانون التجارة والضرائب كأول قانون تجاري عرفه العالم قبل 3 آلاف سنة تعرضت لعمليات نهب منظم.

ولا تزال بقايا مسلة قتبانية نقشت على جوانبها أحكام التجارة في سوق المدينة باقية إلى اليوم كشاهد على شيء من ازدهار تلك العاصمة المنسية التي تنتظر التنقيب الشامل ليكشف عن تاريخها الذي طمرته الرمال.

وكان المجلس الدولي للمتاحف وحماية التراث الثقافي "ICOM"  نشر عام 2018 قائمة سماها قائمة "الطوارئ الحمراء للممتلكات الثقافية اليمنية المهددة بالخطر"، 

وتضم صور 46 قطعة أثرية يمنية وتماثيل وعملات معدنية وأختاماً وأكسسوارات وأدوات حربية ونقوشاً ومخطوطات.

وأشار المجلس الدولي إلى أن هذه القطع ليست مسروقة، بل مسجلة ضمن مجموعات تعود لمؤسسات مرموقة وأن الهدف منها إعطاء أمثلة على القطع الثقافية الأكثر عرضة للاتجار غير المشروع.

يُشار إلى أن اليمن من ضمن الدول الموقعة على اتفاق لاهاي لحماية الملكية الثقافية في حال النزاع المسلح لعام 1954، إضافة إلى اتفاق الأمم المتحدة لمكافحة الجريمة المنظمة لعام 2000.

الحوثي متهم

وتتهم الحكومة اليمنية ميليشيات الحوثي بنهب وتدمير عدد كبير من المواقع الأثرية والتاريخية التي تقع تحت سيطرتها والتورط في تهريب كثير من القطع الأثرية لتمويل مشاريعها.

ولم يصدر عن الحوثيين أي تعليق إزاء هذه التهم، إلا أن القيادي في الميليشيات عبدالله الكبسي، اتهم طرفاً مجهولاً حين دعا خلال لقاء جمعه بمديرة مكتب "يونيسكو" لليمن ودول الخليج آنا باوليني للمساعدة في فبراير (شباط) الماضي، إلى "استعادة القطع الأثرية اليمنية المنهوبة والمسروقة المعروضة في المزادات والمتاحف العالمية،

 إضافة إلى تلك المحتجزة في مطاري باريس ونيويورك والبالغ عددها 64 قطعة أثرية".

توفيق الشنواح
 صحافي يمني