هل ينجح بوتين وترامب في احتواء تصعيد نووي عالمي؟
وسط مخاوف من نفاد الوقت قبل التوصل إلى اتفاقية جديدة بين الولايات المتحدة وروسيا لضبط التهديدات النووية، كشف الرئيس الأميركي دونالد ترامب، مساء الاثنين الماضي،
أنه بحث مع نظيره الروسي فلاديمير بوتين في قمة ألاسكا (في 15 أغسطس/ آب الحالي) ملف الصواريخ وضبط الأسلحة النووية.
وقال ترامب للصحافيين في البيت الأبيض: "نرغب في نزع الأسلحة النووية. إنها قوة هائلة، وقد ناقشنا ذلك أيضاً. هذا جزء من الأمر، لكن علينا إنهاء الحرب" (في أوكرانيا).
ويجب على الطرفين حتى الخامس من فبراير/ شباط المقبل التوصل إلى اتفاقية جديدة لتحل بديلة عن معاهدة خفض الأسلحة الهجومية الاستراتيجية النووية "ستارت 3" أو "ستارت الجديدة" الموقّعة بين الطرفين في عام 2011.
ومدة المعاهدة عشر سنوات، وقابلة للتجديد مرة واحدة، واستغل الطرفان هذا البند في 2021 لتمديدها خمس سنوات وتجنّب انهيار المعاهدة الأخيرة وحجر الأساس في التوازن الاستراتيجي العالمي.
وتعد جميع الالتزامات المنصوص عليها في المعاهدة لاغية في حال عدم التوصل إلى معاهدة جديدة، أو إدخال تعديل تصادق عليه الهيئات التشريعية في البلدين يتضمن تمديدها مرة أخرى،
ما ينذر باندلاع سباق محموم لتطوير رؤوس نووية وحاملات جديدة لها بدأت تظهر معالمه في السنتين الأخيرتين.
وتعدّ "ستارت 3" امتداداً لاتفاقية "ستارت 1" الموقّعة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي في شهوره الأخيرة.
ونصّت "ستارت 3" على تخفيض كل طرف أسلحته الهجومية الاستراتيجية بطريقة لا تتجاوز كمياتها الإجمالية بعد سبع سنوات من دخولها حيز النفاذ (وفي المستقبل) الـ700 رأس للصواريخ البالستية العابرة للقارات، والصواريخ البالستية للغواصات والقاذفات الثقيلة، و1550 رأساً حربياً عليها، و800 وحدة للقاذفات.
وأدخلت المعاهدة مفهوم أجهزة الإطلاق والقاذفات "غير المنشورة"، أي تلك التي ليست في حالة استعداد قتالي، ولكنها تستخدم للتدريب أو الاختبار، ومن دون رؤوس حربية، في حين اقتصرت "ستارت 1" على الرؤوس الحربية النووية على ناقلات استراتيجية منتشرة.
كما تنصّ المعاهدة على أنه لكل طرف الحق في أن يقرر بشكل مستقل تكوين وهيكلية أسلحته الهجومية الاستراتيجية ضمن الحدود الإجمالية التي حددتها المعاهدة، ويمكنه زيادة عددها في إطار الوثيقة. وتضم المعاهدة حظراً على نشر أسلحة هجومية استراتيجية خارج أراضي البلدين.
وتحدد المعاهدة العلاقة بين الهجوم الاستراتيجي (الأسلحة النووية) والأسلحة الدفاعية الاستراتيجية (أنظمة الدفاع الصاروخي)،
إضافة إلى حظر تحويل أنظمة إطلاق الصواريخ البالستية العابرة للقارات، الموجودة على غواصات، إلى أنظمة إطلاق لمكافحة الصواريخ البالستية وللاعتراضات الدفاعية،
وكذلك إعادة التجهيز عكسياً. كما اتفق البلدان على إجراء عمليات تفتيش متبادلة، وتبادل المعلومات، ونظام إشعارات مشتركة حول تحركات الأسلحة النووية ووضعها. ومن البنود المهمة الأخرى في المعاهدة حظر نشر الأسلحة الهجومية الاستراتيجية على أراضي دول ثالثة.
تصعيد نووي متواصل
رغم تباهيه بإنهاء سبعة حروب أثناء حكمه، بدا أن التفاوض على اتفاق جديد يحدد قواعد لمنع صدام نووي مع روسيا ليس على رأس أولويات ترامب، في موقف لم يتغير منذ ولايته الأولى (2017-2021) حين رفض تمديد اتفاقية "نيو ستارت" أو التفاوض على اتفاقية جديدة، ما أثار قلقاً عالمياً، إلى أن قررت إدارة الرئيس جو بايدن تمديد الاتفاقية خمس سنوات، وفتح التفاوض على اتفاقية جديدة.
ومعلوم أن واشنطن وموسكو تبادلتا الاتهامات في عهد ترامب الأول بخرق اتفاقية الحد من الصواريخ المتوسطة وقصيرة المدى، وانسحبتا منها، كما انسحبتا من اتفاقية "السماوات المفتوحة" لمراقبة نشاطات الطرف الآخر النووية.
وكرر مسؤولون روس في الشهور الأخيرة رغبة موسكو في ألا يقتصر التفاوض مع الولايات المتحدة على موضوع الحرب في أوكرانيا، وأنه يجب أن يركز أساساً على قضايا التوازن الاستراتيجي والأسلحة النووية والصواريخ.
وتكرر موسكو عدم رغبتها في الانجرار إلى سباق تسلح جديد.
في المقابل، كشفت صحيفة "كوميرسانت" الروسية، يوم الجمعة الماضي، أن بوتين زار مدينة ساروف، مركز الصناعة النووية الروسية و"مهد" أول قنبلة ذرية سوفييتية.
وذكر أندريه كوليسنيكوف، مراسل الصحيفة الذي يرافق بوتين في جولاته، أن الرئيس الروسي عقد اجتماعاً سرياً لم يكن مدرجاً على جدوله الرسمي، وقال "تمكنت من معرفة أن فلاديمير بوتين توجّه أولاً إلى إحدى المؤسسات غير المدرجة في الجدول الرسمي.
وهناك اختفى لبعض الوقت. بدا أن شيئاً ما أثار اهتمامه كثيراً". وكشفت قنوات "تليغرام" لاحقاً أن بوتين عقد اجتماعاً مع علماء نوويين وعسكريين تناول مسألة التجارب المتعلقة بالصاروخ النووي "بوريفيستنيك"، الذي كشف بوتين عن تطويره في ربيع 2018، مع صواريخ أخرى "لا تقهر" وغواصات نووية.
ويدور الحديث حول إمكانية إدخال "بوريفيستنيك" إلى الخدمة العسكرية في العام الحالي.
وكان لافتاً أن وكالات غربية ذكرت أن روسيا كانت تنوي تجريب الصاروخ في "الأرض الجديدة" في الدائرة القطبية الشمالية في فترة سابقة من الشهر الحالي، وأنها رصدت إغلاقاً للمجال الجوي تتوافق مع بروتوكولات تجريب صواريخ بالستية.
وفي نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، جربت روسيا صاروخ "أوريشنيك" متوسط المدى على هدف في مدينة دنيبرو الأوكرانية وقالت إنه قادر على حمل رؤوس نووية، مضيفة أن الضربة جاءت رداً على تزويد أوكرانيا بصواريخ "أتاكمز" الأميركية بعيدة المدى.
وفي أواخر فبراير/ شباط 2022، وضع بوتين القوات النووية الروسية في حالة "الاستعداد القتالي الخاص".
وفي ديسمبر/ كانون الأول 2021، أعلن رئيس الأركان العامة الروسية فاليري غيراسيموف أن 95% من قاذفات الأسلحة النووية الاستراتيجية البرية جاهزة للاستخدام القتالي بشكل دائم.
وفي ظل دعم الغرب لأوكرانيا في الحرب، أعلن الكرملين في فبراير 2023 تعليق مشاركة روسيا في معاهدة "ستارت الجديدة".
وشدد بوتين حينها على أن روسيا لا تنسحب من الاتفاق، بل "تعلّق مشاركتها" فقط. وقبيل ذلك الإعلان،
صرّحت وزارة الخارجية الأميركية بأن روسيا لم تسمح للمفتشين الأميركيين بالدخول إلى منشآت الأسلحة النووية. ولم تُجرَ أي عمليات تفتيش متبادلة خلال جائحة كورونا.
وبعد انتهائها، أكدت واشنطن أن الجانب الروسي يتعمد تأخير استئناف عمليات التفتيش، ما "يهدد مصداقية" آلية الرقابة المشتركة على الأسلحة النووية.
ووصف دميتري مدفيديف، نائب رئيس مجلس الأمن الروسي، تعليق مشاركة روسيا في "ستارت 3" بأنه "عقاب للولايات المتحدة على سياساتها الغبية المعادية لروسيا". وأضاف: "تستحقون ذلك"، علماً أنه هو نفسه الذي وقّع الاتفاقية في السابق حينما كان رئيساً.
مفاوضات مشروطة
وبعد عودة ترامب إلى المكتب البيضاوي في ولايته الثانية في بداية العام الحالي، برزت آمالٌ بتحسن العلاقات بين موسكو وواشنطن، لا سيما بعد بدء مفاوضات وقف إطلاق النار في أوكرانيا. وأعرب الطرفان رسمياً عن استعدادهما للانخراط بإيجابية في مجال ضبط الأسلحة.
في فبراير 2025، صرّح ترامب برغبته في استئناف محادثات ضبط الأسلحة مع روسيا.
وفي الوقت نفسه، حثّ المشرعون الديمقراطيون الأميركيون وزير الخارجية ماركو روبيو على تجديد معاهدة "ستارت الجديدة" مع روسيا.
وفي يناير/ كانون الثاني الماضي، صرّح المتحدث باسم الكرملين دميتري بيسكوف بأن روسيا ترغب في استئناف محادثات ضبط الأسلحة مع الولايات المتحدة، وهو ما يصب في مصلحة العالم.
اهتمام الإدارة الأميركية في موضوع ضبط الأسلحة النووية والاستراتيجية تراجع نظراً لفشل مفاوضات وقف إطلاق النار بين روسيا وأوكرانيا
وفي 25 يونيو/ حزيران الماضي، قال ترامب رداً على سؤال حول تخفيض الأسلحة النووية بين بلاده وروسيا "أود أن أرى ذلك"، وزاد "بدأنا العمل على ذلك. إنها مشكلة كبيرة للعالم، فرفع القيود النووية يُمثل مشكلة كبيرة".
بيد أن الواضح من تصريحات الطرفين أن اهتمام الإدارة الأميركية في موضوع ضبط الأسلحة النووية والاستراتيجية تراجع نظراً لفشل مفاوضات وقف إطلاق النار بين روسيا وأوكرانيا.
وفي السادس من يونيو الماضي، ربط نائب وزير الخارجية الروسي سيرغي ريابكوف بين مفاوضات ضبط السلاح النووي وحلّ الأزمة في أوكرانيا، وقال "لا يوجد أساس لاستئناف شامل لمعاهدة ستارت الجديدة في ظل الظروف الراهنة.
بالتالي، وبالنظر إلى الديناميكيات الجيوسياسية المتغيرة حالياً، فإن أي انفراج يهدف إلى حل أزمة أوكرانيا المستمرة أمر مستبعد للغاية".
ومنذ عام 1972 وقّعت واشنطن وموسكو سبع اتفاقات للحد من الأسلحة النووية. شكلت الاتفاقات أساساً لـ"السلام النووي" الذي بدا مهدداً بشكل واضح منذ بداية الحرب الروسية على أوكرانيا (فبراير 2022) والتلويح باستخدام السلاح النووي من مبدأ أنه لا يمكن هزيمة دولة نووية.
وفي نوفمبر 2024، أعلنت روسيا رسمياً تعديل عقيدتها النووية. ونصّت النسخة الجديدة على أن الأساس لاستخدام السلاح النووي يشمل "العدوان على روسيا أو حلفائها من قبل دولة غير نووية بدعم من دولة نووية"،
بالإضافة إلى "هجوم جوي واسع النطاق باستخدام وسائل غير نووية، بما في ذلك الطائرات دون طيار".
ورغم مخاطر الانجرار إلى صراع نووي، فإن التهديدات النووية من جانب روسيا أفلحت في ما يبدو في دفع الغرب إلى الالتزام بـ"الخط الأحمر" الذي حدده الكرملين،
والمتمثل في عدم الانخراط المباشر للولايات المتحدة أو حلف شمال الأطلسي (ناتو) في حرب أوكرانيا. في المقابل، لم تتجاوز روسيا ذلك "الخط" أيضاً، فلم تهاجم قواعد عسكرية في بولندا أو دول أخرى، رغم توريد تلك الدول الأسلحة إلى أوكرانيا.
العامل الصيني
وربما يكون هذا الالتزام المتبادل بعدم الانجرار إلى صراع نووي سبباً أساسياً في عدم استعجال ترامب في التوصل إلى معاهدة جديدة، لكن الوصول إلى معاهدة جديدة في أقل من ستة أشهر أمر صعب للغاية.
ومن غير المستبعد أن ترامب ما زال مصراً كما في ولاية إدارته الأولى على أن تضم المعاهدة الصين التي طوّرت قدراتها النووية في السنوات الأخيرة بشكل كبير.
وفي مطلع إبريل/ نيسان الماضي، أشار رئيس القيادة الاستراتيجية الأميركية أنتوني كوتون إلى التهديدات النووية الرئيسية التي تشكّلها روسيا والصين وكوريا الشمالية وإيران في تقريره إلى مجلس الشيوخ.
وركز التقرير على أن بكين تضخ استثمارات كبيرة لتوسيع بنيتها التحتية النووية وزيادة إنتاج البلوتونيوم في مفاعلات التخصيب بدعم روسي،
وتمتلك الصين حالياً ما يقرب من 600 رأس حربي منتشرة، وتشير التوقعات إلى أن هذا العدد سيصل إلى 1000 رأس حربي بحلول عام 2030.
وسلط التقرير الضوء على أن غواصات الصواريخ البالستية الصينية الست من طراز 094 تعتبر رادعاً نووياً موثوقاً به.
وأشار أيضاً إلى التطوير المستمر لقاذفة القنابل الشبح الاستراتيجية من طراز H-20، والتي يمكن أن تشكل تهديداً مباشراً للبر الرئيسي للولايات المتحدة، خصوصاً عند أخذ قدرات التزود بالوقود في الجو وقدرات الضربة بعيدة المدى في الاعتبار.
وفي ظل وجود فريق وازن في الإدارات الأميركية ينطلق من أنه يجب على واشنطن تطوير ترسانتها النووية بطريقة تُمكّنها من احتواء خصمين متساويين تقريباً، روسيا والصين، تتزايد المؤشرات إلى نيّة الولايات المتحدة زيادة عدد الرؤوس الحربية عن الحد المنصوص عليه في ستارت الجديدة والبالغ 1550 رأساً نووياً.
ووفقاً لتقرير معهد استوكهولم الدولي لأبحاث السلام (SIPRI) لعام 2025، تحاول كل من الولايات المتحدة وروسيا تحديث قواتهما الاستراتيجية ووسائل إيصالها.
وحسب التقرير، استثمرت الولايات المتحدة في تحديث قواتها النووية جواً وبراً وبحراً. وفي عام 2023، اشترت وزارة الدفاع الأميركية أكثر من 200 سلاح نووي محدث من الإدارة الوطنية للأمن النووي.
ولا تطرح روسيا إشراك الصين في أي اتفاقية جديدة للحد من الأسلحة النووية، ولكنها يمكن أن تقبل ذلك في حال إدراج القوى النووية البريطانية والفرنسية في أي معاهدات مستقبلية،
خصوصاً بعدما أعرب الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، في إبريل الماضي، عن رغبته في إنشاء "مظلة نووية" لحماية أوروبا من أي عدوان روسي محتمل. وأعلنت بولندا بالفعل استعدادها لاستضافة السلاح النووي الفرنسي على أراضيها.
مخاطر اللاعودة
ومن القضايا المعطّلة للتوصل لاتفاق جديد، إعلان ترامب عن مشروع الدفاع الصاروخي "القبة الذهبية" الذي يهدف إلى مواجهة التهديدات الجوية، خصوصاً من روسيا والصين.
ووصف نائب وزير الخارجية الروسي سيرغي ريابكوف "القبة الذهبية" بأنها مزعزعة للاستقرار للغاية، ما قد يشكل عائقاً في محادثات ضبط الأسلحة. ومعلوم أن الاتفاقات السابقة تنظم إضافة إلى الأسلحة الهجومية نشر منظومة واحدة من الأسلحة الدفاعية،
وكان إعلان الولايات المتحدة نشر منظومات اعتراض صاروخية في بولندا ورومانيا سبباً في توتر العلاقات بين البلدين في العقد الماضي.
ومن العوائق الأخرى أمام تمديد المعاهدة نشر روسيا أسلحة نووية تكتيكية في بيلاروسيا في مارس/ آذار 2023، والنّية بنشر صاروخ "أوريشنك"، وطائرات قادرة على حمل رؤوس نووية.
ومع الاحتمالات الضعيفة للتوصل إلى اتفاقية ناظمة للأسلحة النووية، يبدو أن سباق التسلح النووي الجديد بدأ بالفعل. فتطوير أسلحة جديدة فرط صوتية، فضائية، وذاتية التشغيل، يُعد جزءاً من هذا السباق.
كما أن مشروع "القبة الذهبية" الأميركي، إذا تحوّل إلى واقع، فقد يدفع روسيا إلى اتخاذ إجراءات مضادة، مثل زيادة عدد حاملات الأسلحة النووية.
ولن تقتصر الرغبة في تطوير الأسلحة النووية وحاملاتها على بلدان أصبحت أعضاء في النادي النووي، بل قد تنضم دول أخرى إلى سباق محموم لامتلاك السلاح الذي ثبت أنه الأنجع حالياً في ردع أي عدوان.
سامر إلياس