لا تواصلوا الكذبَ على فلسطين
كثير من انقلابات العسكر في عالمنا العربي قامت على شعار نُصرة فلسطين، لكن النتيجة النهائية أنها ساهمت بشكل مباشر في ضياع فلسطين، الأرض بشكل مباشر، ثم طمس القضية بعد ذلك، وهذا أمر لا يقلّ أهمية عن ضياع الأرض.
من التّهم الغريبة التي كانت توجه لمن ينتمون لفصائل فلسطينية، التي كانت ممنوعة في هذا البلد أو ذاك، تهمة التآمر لقلب نظام الحكم! لأن تهمة الانتماء لتنظيم فلسطيني ستكون فاضحة لهذه الأنظمة التي لا تتوقف أبدًا عن إعلان تأييدها لفلسطين والشعب الفلسطيني والقضية الفلسطينية.
بهذا، كانت التهمة لمحبي فلسطين تعني الكثير، وأول ما تعنيه أن هؤلاء، وهم يتآمرون على النظام، يعيقون مساعيه وخططه الاستراتيجية لتحرير فلسطين، وهم بهذا المعنى أو ذاك أعداء لفلسطين لأنهم أعداء للنظام!
القيادة السياسية الفلسطينية اليوم، ابنة شرعية للأنظمة العربية أيضاً، تعلّمت الدّرس، بحيث يبدو كل من هو ضدها، بدفاعه عن فلسطين، حجر عثرة في طريق هذه القيادة لتحرير فلسطين! لهذا، لم تتوانَ عن حبسه وتهشيمه وتهميشه، وأحياناً تسليمه للعدو، ولو سرّاً، لكيلا يعيق مسيرتها نحو حرية الوطن!
عانت الشعوب العربية في أكثر من مكان من الأحكام العرفية، وقوانين العسكر، التي ضيّقت الحريات، وقنّنت استخدام كلمة وطن لصالح كلمة الزعيم،
وفي زمن أصبح الوعي عدوّاً لها، عملتْ بكل ما لديها من قدرات وما قُدِّم لها ويقدّم من خبرات خارجية على تدمير العقل بتدمير التعليم بصورة ممنهجة، وهي تدّمر المناهج المدرسية، وتتواطأ على تدمير الجامعات، وزجّ كثير من مخبريها «وجُهَّالها» في هيئات التدريس والإدارات، وترهيب كل ذي عقل بالفصل بهدف الإخضاع، ويعرف المرء كثيراً من الأساتذة اللامعين العلماء الذين هُجِّروا فعلاً لفرط الضغط عليهم، فانهار التعليم؛ فبعد زمن كان تلميذ المدرسة يتخرج من مدرسته جامعيّاً، أصبح الجامعيّ في كثير من الجامعات العربية يتخرج طالب مدرسة.
أنظمة لم تُحب فلسطين يوماً ولم تُحب من يُحب فلسطين، فقد كانت فلسطين مشروع تربُّح، ومشروع بقاء لها، وإن تمنَّع بعضها، لنكتشف بعد ذلك أن تمنّعه كان في السرير الصهيوني، عارياً يدعي العفة، وأخرس يدعي امتلاك ناصية الكلام.
ليس ثمة إفراط مبالغ فيه حين يقول المرء إن كل أنظمة العالم العربي والعالم لم تزل ضد غزة، لسبب واحد؛ أن شراء الوعود الطيبة، في أفضل حالاته، ليس أفضل من شراء ماء الغيم قبل نزول المطر.
كل أنظمة العالم العربية، بدرجات متفاوتة، سببٌ أساس لما يحدث اليوم لغزة وفلسطين، ومعها نظام فلسطيني رخو تابع موزَّعة ولاءات (رجاله) على العواصم، كما لو أنهم ليسوا أكثر من فتوّات تمارس البطش ضد شعبها، يمثل كل واحد منهم نظامًا/عصابة في الخارج، عدوّاً كان هذا النظام أو تابعاً للعدو، أو مُداهناً له، أو مُبارِكاً كل رصاصة تُطلق على رأس الفلسطيني في غزة والضفة ومن البحر إلى النهر، أو نظاماً يجاهد بإخلاص كلبيٍّ بكل ما لديه ليكون أكثر صهيونية من الصهاينة أنفسهم.
هذا الصمت المرعب الذي يتعامل مع غزة كما لو أنها خارج الكرة الأرضية، ليس صمتاً مفاجئاً، فقد سبقه في مرحلة من مراحل ما قبل النكبة وخلالها قيام أنظمة عربية بالقبض على الثوار الفلسطينيين وتسليمهم للاستعمار الإنجليزي ليتمّ إعدامهم، وتلاه قيام أنظمة باستدعاء ضباط وجنود من (جيش الإنقاذ) ومحاكمتهم بتهمة تبديد الذخيرة لأنهم تمرّدوا ورفضوا التخلّي عن الفلسطينيين والمدن والقرى الفلسطينية. إنها أنظمة وقيادات أتقنتْ الكذب دائماً، في أزمنة كان فيها الفلسطيني مضطرّاً لأن يُصدِّق، كما حدث حين قامت أنظمة بقطع العهود على نفسها لدفع الفلسطينيين لوقف إضراب ثورتهم الكبرى 1936، مستعينين بقائد الثورة الذي تبين أنه جزء من القيادات العربية لحماً وعظماً وتواطؤاً، فوزي القاوقجي، الذي وقّع على ذلك البيان الذي جاء فيه:
«أطلبُ من الشعب العربي المجيد مراعاة الأمور الآتية بكل اهتمام: عدم مقابلة اليهود بالمثل، وهم الذين أخذوا يعتدون، لا عن شجاعة أو شهامة.. بل بقصد الدّس والإفساد بين جيش الثورة والجيش البريطاني كي يعود النزاع والاضطراب ولكي يفسدوا علينا المفاوضات فيحولون دون نيل البلاد حقها، وإني أنتظر من الشعب الكريم الصبر وانتظار ما ستصنعه السلطة البريطانية في حقوق العرب… إن جيش الثورة لفخور جداً بأن يكون قام بواجبه، كما عاهد، وأنهى مهمته بالفوز وأوصل البلاد إلى حدود أمانيها وحقوقها التي أصبحت في عهدة الملوك والأمراء والأمة العربية جمعاء. لهذا ترى قيادة الثورة، اعتمادً على ضمانة الملوك والأمراء وحفظاً لسلامة المفاوضات، ولعدم جعل أية ذريعة للخصم يتذرع بها للعبث في الحقوق المضمونة أن يترك الميدان.. بعد أن لم يبق له أي عمل، وإنها لتعاهد أن يكون جيش الثورة في طلائع الجيوش العربية التي سوف تسرع لإنقاذ فلسطين!) القائد العام/ فوزي الدين القاوقجي، 12/10/1936».
.. لن نبالغ أبداً إذا قلنا إن إنهاء ثورة 1936 كان النكبة الأولى.
لقد واجهت كلّ ثورة فلسطينية بعد ذلك هذا المصير، وحين لم تستجب أحياناً، تمّ سحقها بالنار والإبادات والنّفي، من دون أن ننسى أن تماهي القيادات الفلسطينية المؤثرة مع الأنظمة العربية بكل أشكالها وألوانها وأهدافها المشتركة وغير المشتركة، كان جزءاً من الضياع المتواصل لفلسطين، الذي تُوِّج بأوسلو، حين راحت هذه القيادة تتسابق للوصول إلى اتفاق مع الصهاينة قبل أنظمة عربية وقّعت أو على وشك أن توقِّع، وكأن السقوط في الهوّة الصهيونية هو قمة الفوز.
وبعـــد:
يصحو نتنياهو كل صباح من أجل حلم «إسرائيل الأكبر»، وتصحو الأنظمة العربية كل صباح راضية بعالم عربي أصغر (على كل المستويات). عالم عربي باتت أنظمته تمنع أي مسيرة مؤيدة لفلسطين، بل وتحاسب كل من يرفع علماً فلسطينياً أو تطرده خارج البلاد، وتستدعي أجهزة مخابراتها كل من يقوم بطباعة رمز فلسطيني على قميص أو حتى على كوب لشرب القهوة.
المواطن العربي الذي يعتقد أن ما يحدث ينتمي إلى عالم المصادفة، سيكون وطنه الضحية التالية، بعد أن تأكد أكثر فأكثر أن فلسطين هي التي كانت تحمي الأرض العربية، من المحيط إلى الخليج، لذا بات لزاماً على العقل العربي أن يتقيأ كل أكاذيب الأنظمة التي ابتلعها طوال سبعة وسبعين عاماً.
لقد ضيعت الأنظمة العربية الفرصة الأكبر في التاريخ الحديث حين فعلت كل ما لديها لتمنع فلسطين من أن تحمي هذا الوطن العربي الممتد بين ماءين وأكثر من صحراء..
إبراهيم نصر الله