مجاعة غزة ترتد على "إسرائيل".. من سلاح ضغط إلى وصمة عار دولية
أجساد هزيلة، وجموع جائعة تلهث وراء شربة ماء، مشاهد أرادت "إسرائيل" من ورائها أن تدفع الفلسطينيين في قطاع غزة إلى الهجرة، إلا أنها ارتدّت عليها، وصارت تل أبيب في مواجهة إجماع دولي غير مسبوق، يتهمها باستخدام الجوع سلاحاً في الحرب.
ولم يتوقف الأمر عند إبداء الامتعاض أو الانتقاد العلني، بل تطور إلى اتخاذ مواقف وإجراءات، أبرزها إعلان العديد من الدول الغربية اعتزامها الاعتراف بدولة فلسطين، بالرغم من أنها حتى وقت قريب كانت من أشد حلفاء "إسرائيل".
وعلى الرغم من تهرّب نتنياهو وحكومته ومحاولة التنصّل من مسؤولية المجاعة في غزة، فإن الأصوات بدأت تتعالى حتى داخل الكيان الإسرائيلي نفسه، مؤكدة أن حرب التجويع ستنعكس سلباً على "إسرائيل".
تحول كبير
مجاعة غزة ضربت مسماراً عميقاً في نعش "إسرائيل"، كما تشير العديد من التحليلات، التي ترى أن الكيان المحتل أصبح أسيراً لليمين المتطرف، الذي يرى ضرورة احتلال غزة وطرد سكانها، باعتبار ذلك ضرورة للأمن القومي الإسرائيلي.
ويبدو أن حتى الولايات المتحدة الأمريكية أصبحت غير قادرة على تغطية المجاعة المؤسفة في غزة، التي تنقلها الشاشات العالمية ليل نهار، وتنقل معها التواطؤ الأمريكي مع هذه الجريمة.
ويتجلى ذلك من خلال تحول موقف ترامب، من إنكار وجود المجاعة، إلى وصف ما يحدث في قطاع غزة بأنه "مفجع ومؤسف وعار وكارثي"، مشدداً على أن بلاده تسعى لإطعام السكان في القطاع.
التحول في الموقف الأمريكي سبقه تحول كبير في مواقف الدول الغربية، وخصوصاً بريطانيا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا، وهي دول كانت حتى وقت قريب ترى فيما تفعله "إسرائيل" في غزة ضرباً من ضروب الدفاع عن النفس.
وتحت ضغط صور الأطفال الهزلى والتقارير الصادمة الصادرة عن برنامج الأغذية العالمي ومنظمة "أنقذوا الأطفال"، بدأت أصوات حليفة تقليدياً لإسرائيل، كواشنطن ولندن وباريس، تتحدث بلغة أكثر وضوحاً في تحميل الاحتلال مسؤولية الحصار وتدمير سبل الحياة في القطاع.
وقال رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر، إن المعاناة والمجاعة في غزة أمر لا يوصف ولا يمكن الدفاع عنه،
مؤكداً أن بلاده ستعترف بدولة فلسطين في سبتمبر المقبل، إلى جانب فرنسا ومالطا وكندا وأستراليا وأندورا وفنلندا وآيسلندا ولوكسمبورغ ونيوزيلندا والبرتغال وسان مارينو.
وفي (27 يوليو الماضي)، قال الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، إنه لا يمكن أن تقبل بلاده بموت الأطفال جوعاً في غزة، مؤكداً أن بلاده ستعترف بفلسطين في سبتمبر، لإطلاق مسار جديد لحل دائم على أساس حل الدولتين.
كما وجّه أكثر من ألف موظف بالاتحاد الأوروبي رسالة دعوا فيها إلى تعليق العلاقات الدبلوماسية مع "إسرائيل"، بسبب المجاعة، مشيرين إلى أن المجاعة في غزة تتسارع ولا يمكن إيقافها بتقديم مساعدات مؤقتة أو إسقاطات جوية.
ورطة "إسرائيل"
هذا الانكشاف الكبير للإجرام الإسرائيلي، وانفضاض الحلفاء من حولها، يؤكد أن "إسرائيل" دخلت حقبة خطرة، ستصبح معها دولة منبوذة، وفقاً للكاتب الإسرائيلي كوبي نيف، في مقال نشرته صحيفة "هآرتس" العبرية.
وقال نيف إن نهاية الحرب الحالية تعني اكتشاف الفظائع التي ارتكبتها "إسرائيل" وتحولها إلى دولة منبوذة، مشيراً إلى أن جميع الصهاينة سيدفعون ثمن حرب غزة.
من جانبه، قال رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق إيهود أولمرت، إن آلاف الأبرياء الفلسطينيين يُقتلون، واصفاً ما تفعله حكومة بلاده في غزة حالياً بأنه "يقارب جريمة حرب".
في حين قال زعيم حزب الديمقراطيين يائير غولان، إن "إسرائيل" تتحول إلى دولة منبوذة بين الأمم، كونها لا تتصرف كدولة عاقلة.
من جانبه، قال الكاتب الإسرائيلي يولي سيكر، في مقال بصحيفة "يديعوت أحرونوت" (أواخر يوليو الماضي)، إنه لا يوجد أي تفسير مقبول يمكن للعقل البشري استيعابه أو تقبّله عند مشاهدة صورة طفل يتضوّر جوعاً وتعلو وجهه نظرة إلى السراب.
وأشار إلى أنه لا يمكن لـ"إسرائيل" تبرير تلك الجريمة، قائلاً: "حتى لو جُنّدت أذكى العقول الدعائية وتمت الاستعانة بأمهر الخطباء وأشهر المؤثرين في تيك توك... فإن هذه المشاهد لا يمكن تبريرها".
ومنذ قرابة 80 يوماً، تستخدم "إسرائيل" التجويع كسلاح في الحرب، مخالفة بذلك القوانين والأعراف الدولية. وتشير البيانات إلى وفاة قرابة 162 شخصاً، بينهم 92 طفلاً، جراء الجوع، بينما يواجه غالبية السكان المصير نفسه.
انحياز عالمي
سياسة التجويع، وتوظيف المجاعة كسلاح في الحرب، انعكست سلباً على "إسرائيل"، وأطاحت بما تبقى من سمعتها، لتثبت للعالم أنها دولة احتلال.
ويرى الخبير في الشؤون الإسرائيلية، عصمت منصور، أن قضية التجويع في غزة ضغطت على ضمير العالم، لافتاً إلى أن الصور القادمة من قطاع غزة، لا يمكن احتمالها.
وأشار منصور ، إلى أن تلك المشاهد "تعكس وضعاً إنسانياً متدهوراً جداً، وحالة مجاعة حقيقية رغم إنكار الولايات المتحدة وإسرائيل".
وأضاف منصور:
هذه المأساة كشفت طبيعة "إسرائيل" وحربها، وأنها ضد كل الغزيين وكل الفلسطينيين، وليس فقط ضد "حماس"، كما أن فكرة 7 أكتوبر والصور التي صدمت العالم آنذاك، زالت أمام هذه المشاهد.
قضية الجوع والتدمير في القطاع أصبحت في صدارة اهتمام العالم، وحرّكت هذه المواقف التي نراها الآن.
"إسرائيل" عاجزة عن مواجهة هذا السيل من الإعلام والتغطيات والصور، وأصبحت مكروهة عالمياً.
حتى الآن، موقف الداخل الإسرائيلي لا يزال ينكر كما تنكر حكومته وجود مجاعة، إلا من بعض الاستثناءات، ويتعاطون معها على أنها مبالغات ومغالطات، وأنها دعاية من "حماس".