إيران: عندما تخطئ الحسابات
خلال العقد الماضي كانت إيران تلعب باحترافية عالية، استطاعت التحكم في «أربع عواصم عربية»، وكان جنرالها قاسم سليماني يعبر الحدود من إيران للعراق فسوريا ولبنان، كما يسافر من طهران لقم.
كان اللعب الإيراني احترافياً، ساعدها فيه غض الطرف – إن لم يكن تواطؤ – القوى الدولية الفاعلة، لأن الهدف حينها كان مشتركاً بين اللاعب الإيراني واللاعب الدولي.
مكاسب كثيرة راكمها اللاعبان على حساب البلدان والشعوب العربية، بسبب غياب مشروع عربي يملأ الفراغ الذي تمدد فيه اللاعبون الإقليميون والدوليون.
ظلت طهران تلعب على حافة الهاوية، لكن على حذر تام من الانزلاق، كانت تدفع الأمور إلى حرف المنحدر السحيق، وعند اللحظة المناسبة تتراجع خطوة للوراء، محملة بمكاسب كبيرة، دون أن تخسر أي شيء.
كان قاسم سليمان يعبر من العراق لسوريا ولبنان، وكان يفرد خرائط المعارك في حلب والموصل، وكان خبراء طهران يخططون لمعارك مأرب، متحدثين بثقة أن الصيام سيكون في المدينة، وأن الفطور سوف يكون على «رطبها».
كانت الجحافل التي أنشأها سليماني ورفاقه تدك الموصل بغطاء أمريكي دولي، وكانت الجحافل ذاتها تضرب حلب وحمص، بالغطاء ذاته، وكان سليماني ورفاقه نجوماً في سماء «الحرب العالمية على الإرهاب» الذي كان حينها إرهاباً «سُنياً»، حسب مقتضيات التعريف الزئبقي للإرهاب في تلك السنوات.
قدمت إيران بتدخلاتها في شؤون الدول العربية في الإقليم أكبر خدمة يمكن أن تحلم بها أمريكا وإسرائيل اللتان تهتف إيران وميليشياتها بموتهما. شغلت العرب بحروبهم الداخلية، صرفت الكثير من القطاعات الرسمية والشعبية عن الاهتمام بالقضية الفلسطينية، بعد أن أصبح في كل بلد نكبة وقضية وفلسطين.
كان الوضع خلال العقد الماضي مريحاً للأطراف المختلفة، ما عدا أصحاب الأرض التي تتقاتل عليها تلك المشاريع، بعد ترك الساحة فارغة للاعبين، وسط حالة إنهاك عربي: سياسياً وأمنياً، وحالة من اليأس والإحباط تلف قطاعات واسعة من الجمهور العربي الذي كان يرى إسرائيل تتغول باسم مواجهة إيران، وإيران تتمدد باسم مقاومة إسرائيل.
كان العقد الماضي بمثابة العقد الذهبي للنظام في إيران، حيث استطاع مشاغلة الغرب، ودرء الحروب بعيداً عن حدود بلاده، فيما هو يكثف من نشاطاته، في البرنامجين النووي والصاروخي من جهة، ويراكم أرباحه من تجارات مختلفة يقوم بها مباشرة، أو عن طريق الوكلاء، مستغلاً حالة الانقسام الدولي في كيفية التعاطي معه، وحالة الانشغال الأمريكي بقضايا أخرى في أوروبا وشرق آسيا، وحالة الرضى عن تصرفاته في المنطقة التي مزقت شعوبها، الأمر الذي جعل النظام في طهران على درجة من الاطمئنان إلى أن رياحه أصبحت تهب بما تشتهي سفنه، قبل أن يلوح له في الأفق خطر داهم، مع ترشح دونالد ترامب مرة أخرى لرئاسة الولايات المتحدة.
قدمت إيران لاحتمالية فوز ترامب بالبيت الأبيض، قدمت لذلك بانتخاب مسعود بزشكيان لرئاسة إيران، إذ لم يكن المرشد يرغب في أن يكون في رئاسة الجمهورية رجل يمثل الحرس الثوري، كي لا يتصادم الجنوح الثوري في إيران، مع الجموح الجمهوري في أمريكا. كانت خطوة ذكية من المرشد الإيراني علي خامنئي أن يسمح بتمرير أوراق بزشكيان للانتخابات، من أجل التمهيد حينها لفوزه، وهو ما كان.
وجود بزشكيان الذي تحدث بإيجابية عن «الإخوة الأمريكيين»، والمستعد لاستثمار ترليونات الدولارات مع ترامب، وجود بزشكيان في رئاسة إيران مهم لخامنئي الذي خطط لمواجهة جموح ترامب بليونة بزشكيان.
كان كل شيء يسير وفق خطط خامنئي الذي حسب حساباته بدقة، ترقباً لمجيء ترامب للسلطة في أقوى بلد في العالم، غير أن الرئيس الأمريكي الذي فاز بالبيت الأبيض لم يكن لديه طول نفس الإيرانيين، ولذا جاء متعجلاً، لإنجاز صفقة نووية ـ قسراً ـ مع إيران.
حاول المرشد إبداء قدر من «الممانعة»، لكن هامش المناورة كان ضيقاً جداً، في التعامل مع رجل مثل دونالد ترامب، مع غياب رجلين كانا يرقصان «التانغو» بشكل مثير، هما جون كيري، وجواد ظريف.
أغرى المرشد ترامب بالاستثمار، أغراه بإشراكه في بناء مفاعلات نووية سلمية، لعب الإيرانيون على غريزة المال، ناوروا، أرسلوا رسائلهم فوق الطاولة وتحتها، تخاطبوا مع حلفاء ترامب، وتواصلوا مع الأوروبيين، ذهبوا لروسيا، تحدثوا للصينيين، لكن ترامب أصر على المفاوضات التي لم تكن أكثر من خطوة نحو الحرب، لا لمنعها.
وضع ترامب شروطه، رفضها المرشد، وكان الرفض هو المطلوب لشخص آخر اسمه بنيامين نتنياهو الذي كان يراقب عن كثب، واقفاً على ركام غزة، باحثاً عن حرب جديدة، تكسبه نصراً لم يجده فوق الركام.
انهارت المفاوضات الأمريكية الإيرانية، وجاءت الضربة الإسرائيلية على إيران، وخلال ساعات سقط معظم قادة الصف الأول في الجيش والحرس الثوري والاستخبارات، مع مجموعة كبيرة من علماء الذرة وخبراء التسليح، في واحدة من أكبر الاختراقات التي حققها الموساد الإسرائيلي.
ردت إيران بقوة بالطبع، وردت إسرائيل بكثافة، واستهدفت مفاصل البرنامجين النووي والصاروخي، والمرافق الاقتصادية في إيران، شعرت إيران أن أحلامها الإمبراطورية تنهار، تحسس خامنئي رأسه،
إذ لأول مرة منذ عقود يسيطر الطيران الأجنبي على سماء بلاده، وتدفع إيران فاتورة باهظة، هي في الحقيقة فاتورة طموح طهران الإقليمي.
كانت الحرب من أجل البرنامج النووي الإيراني الذي بني لغرض الهيمنة الإقليمية، وما كانت فلسطين إلا ورقة بالنسبة لطهران على طاولة لعب كبيرة أتقنت طهران اللعب عليها، لولا أن قواعد اللعبة تغيرت فجأة، الأمر الذي خسرت معه طهران الكثير.
محمد جميح
كاتب يمني