Logo

حين تتناسل الدولة في اليمن خارج ذاتها

 لا يقاس خطر التصدع في لحظات التحول الكبرى على مستوى الدول بما يقال علناً، بل بما يؤسس له بصمت في المفردات والمفاهيم والبنى المستجدة. 

فحين تتكاثر العناوين السيادية في دولة ما، وتتعدد مراكز إصدار القرار، يصبح الوطن ساحة لتنازع التأويلات حول من يملك الحق في تمثيل القوة، لا في خدمتها. عندئذ لا تعود الدولة كياناً جامعاً، بل تتحول إلى جغرافيا تتناسل فيها السلطات كما تتناسل الطوائف، 

ويغدو "القائد الأعلى" ليس صفة دستورية موحدة، بل شعاراً متاحاً لكل من يمتلك أدوات السيطرة أو الطموح إلى رسم خرائط ما بعد الدولة. ليست المسألة في تصوري شكلية ولا لغوية، إنها تعبير عن اختلال في الفهم العميق لفكرة الدولة ذاتها: 

كيان يحتكر القوة، لا يتقاسمها. ومن هنا يبدأ المسار، لا نحو التعددية، بل نحو التفكك.

دعوني أدخل في صلب الموضوع مباشرة: في لحظة قد تبدو هامشية عند النظرة الأولى، لكنها مشحونة بالدلالة عند التأمل العميق، صدر في الـ29 من يونيو (حزيران) 2025 قرار عن رئيس حلف قبائل حضرموت يقضي بتشكيل "اللواء الأول من قوات حماية حضرموت"،

 متضمناً تكليف قيادة ميدانية للواء، وموقعاً باسم "القائد الأعلى لقوات حماية حضرموت". قرار كهذا في اعتقادي لا يمكن قراءته كخبر محلي عادي أو عابر، بل بوصفه نصاً موازياً لنص الدولة، لا يستعير لغتها فقط، بل ينازعها السلطة المفردة وموقع الهيبة.

فمنذ متى بات في اليمن أكثر من قائد أعلى للقوات المسلحة؟

على أرض الواقع صار لدينا على نحو مدهش ومربك في آن رئيس مجلس القيادة الرئاسي بصفته القائد الأعلى للقوات المسلحة اليمنية، ورئيس المجلس الانتقالي الجنوبي بصفته القائد الأعلى للقوات المسلحة الجنوبية،

 والآن رئيس حلف قبائل حضرموت كقائد أعلى لقوات حماية حضرموت. وهكذا تشتق من الدولة جزر سيادية ترفع الرايات الخاصة بها، وتنشئ القوات المسلحة التي تحمي راياتها، وتتنافس في ما بينها بينما الشرعية المعترف بها إقليمياً ودولياً واحدة.
 
في تصوري ليست المسألة محصورة في لقب، بل هي اشتقاق متكرر لسلطة الدولة خارج مركزها القانوني. وكل من يتخذ لنفسه صفة "القائد الأعلى" باستثناء من هو على رأس الدولة، وهو هنا رئيس مجلس القيادة الرئاسي، 

فإنه يعلن من دون أن يقولها صراحة أن سلطة الدولة في الجمهورية اليمنية لم تعد تحتكر القوة، وأن إعلان نقل السلطة الصادر في السابع من أبريل (أبريل) 2022، 

بما نص عليه من ضرورة توحيد التشكيلات العسكرية والأمنية تحت مظلة وزارة الدفاع، قد تحول إلى نص مؤجل أو منقوص أو مفرغ من مضمونه.

ومع كل خطوة على هذا الدرب الشائك شديد الخطورة، يتكرس التفكيك لا التوحيد باتجاه استعادة الدولة ممن انقلب عليها بقوة السلاح، ويصير لكل جهة "قواتها المسلحة" و"حدودها" و"قيادتها الأعلى". 

وما بدأ في حضرموت من حلف قبائل حضرموت، وفي عدن من المجلس الانتقالي الجنوبي، لن يتوقف عند هذه الحدود إذا لم تضبط البوصلة بحسم وطني شجاع، وتستعاد فكرة الدولة بوصفها مرجعية لا تقبل القسمة، 

فكل محافظة ستطالب، بمنطق الندية أو الشعور بالمظلومية، بقوات مسلحة مماثلة، وقيادات عليا موازية (وقس الأمر ذاته على هذا الكيان أو ذاك المجلس). 

حينها، لن نكون بصدد تعددية تنموية أو إدارية مشروعة، بل أمام إعادة إنتاج النسخ الميتة من الدولة، تلك التي تقاتل نفسها، وتبني لكل مشروع "قائداً أعلى" ببذلة رسمية ونشيد جهوي.

ولأن الألقاب تصنع الهويات، فإننا ننتقل بهذه الخطوات الانشطارية من مشروع "استعادة الدولة" إلى مشهد "تناسل الدول داخل الدولة"، في نزعة تبدو - في ظاهرها - استجابة للحاجة الأمنية ودفاعاً عن الثروات، لكنها في جوهرها تهدد العقد الناظم للجمهورية اليمنية ذاتها، وتضعف السلطة المركزية لمجلس القيادة الرئاسي، وتفرغ سيادته من محتواها التنفيذي.

الأخطر من ذلك أن ما يحدث يمنح الميليشيات الحوثية – كسلطة أمر واقع – ذريعة إضافية لتبرير فوضى السيطرة المناطقية، 

إذ لا معنى لأن ترفض سلاح ميليشيات في صنعاء بينما تقبل بميليشيات محمية بعنوان جهوي في حضرموت أو في عدن أو في مأرب أو في أبين أو في تعز، فحين تفقد الدولة مناعتها في جهة تصاب بالعدوى في الجهات الأخرى.

إننا أمام مفترق طرق، فإما أن تتجسد الدولة ككيان وطني جامع يحتكر أدوات السلاح المشروع ويعيد توحيد القرار العسكري والسياسي على نحو واضح ودقيق وحاسم لاستعادة الدولة، 

ومن ثم خوض عملية سياسية تقوم على حوار وتشمل الأطراف كافة، وتقود إلى حل سياسي شامل وعادل ومستدام، أو أن نستمر في إنتاج "قادة أعلى" على خرائط تتقلص فيها فكرة الوطن، 

وتتضخم فيها المشاريع التي تعيد تعريف القوة لا كوظيفة وطنية جامعة، بل كأداة حماية لسلطات قائمة على الأرض أو لسلطات تحت التكوين. فالدولة لا تبنى بتكاثر العناوين، بل بتوحيد الراية خلف عنوان وطني واحد.

في نهاية المطاف لا تنهار الدولة دفعة واحدة، بل تتآكل من أطرافها حين يعاد توزيع مفرداتها السيادية على كيانات متناسلة لا يجمعها سوى القلق من الفراغ، والرغبة في ملئه، كل بطريقته. 

إن تكاثر "القادة الأعلى" ليس مجرد خلل في البروتوكول، بل في البوصلة، إذ يصبح العنوان السيادي أقرب إلى سلعة رمزية تتداولها القوى المحلية لتكريس حضورها على حساب حضور الدولة. 

وما يخشى منه أن تتحول خريطة الجمهورية اليمنية إلى طيف من الجزر الأمنية المتجاورة، لكل منها نشيدها وعلمها وذاكرتها القتالية، بينما الوطن يتقلص إلى مجرد مساحة مشتركة للارتياب المتبادل. 

وإذا لم يجر كبح هذا المسار بعقل مركزي يجمع بين الصرامة والحكمة، ويعيد تعريف القوة كوظيفة سيادية لا كحق مكتسب بالعرف أو السلاح، فإننا لا نكون بصدد بناء الدولة، بل نكون نشيعها في صمت، راية تلو أخرى.

سامي الكاف
 صحافي وكاتب يمني