بين القاهرة والخليج.. سباق على قيادة الجامعة العربية وسط تحولات إقليمية
في خضم التحولات السياسية والاقتصادية التي تشهدها المنطقة، تعود جامعة الدول العربية إلى واجهة النقاش، ليس فقط بسبب جدوى دورها التقليدي، بل كذلك بشأن مستقبل قيادتها ومقرها.
ومع تصاعد الأزمات الإقليمية والتطورات الدولية، تُطرح تساؤلات جادة حول ما إذا كانت هذه الظروف تدفع باتجاه تحول خليجي داخل الجامعة، يقود إلى إعادة رسم معالم القيادة والتمثيل، وربما حتى إعادة صياغة لدور المنظمة برمّتها.
سباق "الأمانة العامة"
أثار قرب نهاية الولاية الثانية للأمين العام الحالي لجامعة الدول العربية، أحمد أبو الغيط، موجة من الجدل حول هوية الخليفة المحتمل، ومكانة مصر في قيادة الجامعة، في مقابل تنامي الدور الخليجي.
ويتجلى هذا الجدل في تسريبات، وتكهنات إعلامية، وتصريحات أكاديمية، فتحت باب النقاش حول تدوير المنصب، وربما إعادة توزيع مراكز التأثير داخل الجامعة.
ونقلت شبكة CNN بالعربية، عن تقارير إعلامية، في 10 يونيو 2025، أن المملكة العربية السعودية تسعى لترشيح الوزير السابق للشؤون الخارجية عادل الجبير لمنصب الأمين العام لجامعة الدول العربية، وهو منصب لطالما كان حكراً على مصر باستثناء حالة واحدة فقط.
في المقابل، ذكرت التقارير أن الحكومة المصرية تتجه لترشيح رئيس الوزراء المصري الحالي مصطفى مدبولي كخليفة لأحمد أبو الغيط، الذي تنتهي ولايته في سبتمبر المقبل.
وأشارت الشبكة إلى تزايد الجدل مؤخراً على منصات التواصل الاجتماعي حول احتمال نقل مقر الجامعة العربية من القاهرة، إلى جانب المطالبات بـ"تدوير" منصب الأمين العام،
في وقتٍ لا يزال فيه ميثاق الجامعة ينص في مادتيه العاشرة والحادية عشرة على أن القاهرة هي المقر الدائم للجامعة، مع السماح بانعقاد اجتماعاتها في أماكن أخرى مؤقتة.
وفي هذا السياق، صرّح الأكاديمي الإماراتي عبد الخالق عبد الله، عبر حسابه الرسمي على منصة "إكس"، قائلاً: "يجري حديث خلف الكواليس لاختيار أمين عام جديد للجامعة العربية وضرورة تدوير المنصب الذي حان وقت انتقاله إلى الخليج العربي، حيث مركز الثقل العربي الجديد، وأرشح دبلوماسياً إماراتياً مخضرماً لهذا المنصب".
وفي تدوينة سابقة، أوضح عبد الله: "أعتقد حان وقت تدوير هذا المنصب مع الإبقاء على مقر الجامعة في القاهرة، دون أن يعني ذلك أي انتقاص لدور مصر القيادي".
وعند سؤاله عن مرشحه المفضل، أجاب: "في الإمارات عشرات من الكفاءات الدبلوماسية القادرة على إدارة الجامعة العربية بجدارة واقتدار".
في المقابل، نقلت هيئة الإذاعة البريطانية "بي بي سي" عن وسائل إعلام مصرية وعربية، أن القاهرة تعتزم ترشيح شخصيات بارزة مثل وزير الخارجية الحالي بدر عبد العاطي، والوزير السابق سامح شكري، إلى جانب رئيس الوزراء مصطفى مدبولي.
وتحدث الباحث السعودي في الدراسات الاستراتيجية والعلوم السياسية، الدكتور محمد صالح الحربي، إلى "بي بي سي" في 11 يونيو 2025، قائلاً إن كل ما يُتداول لا يتجاوز كونه "أفكاراً على الفضاء الإلكتروني"،
معتبراً أن "لكلٍّ أن يُدلي بدلوه عبر وسائل التواصل الاجتماعي والمقالات الإعلامية"، دون وجود أي إعلان رسمي سعودي أو خليجي.
ورغم ترشيح بعض الكتاب الخليجيين لأسماء مثل الجبير أو الوزير الإماراتي السابق أنور قرقاش، فإن اختيار الأمين العام، بحسب الحربي، "يستلزم موافقة ثلثي الأصوات"، وهو ما يجعل التوافق على اسم خليجي أمراً غير مضمون.
وأكد الحربي أنه "لا وجود لأي نص دستوري أو قانوني داخل الجامعة يُلزِم بأن يكون الأمين العام من جنسية معينة"، لكنه لفت إلى أن قمة جدة 2023 شهدت تشكيل لجنة عربية برئاسة السعودية لبحث إصلاحات شاملة داخل الجامعة، بما في ذلك آلية اختيار الأمين العام.
وختم الحربي بالقول إن الجامعة تحتاج إلى هيكلة جديدة وآليات أكثر مرونة لمواكبة المتغيرات، مشيراً إلى أنها "لا تملك مشاريع خلاقة تؤثر أو تنعكس إيجاباً على الشعوب العربية"،
مضيفاً أنه لا يمكن مقارنتها من حيث الفاعلية مع الاتحاد الأوروبي أو مجلس التعاون الخليجي.
اختلاف الرؤى
ويرى أستاذ العلوم السياسية في جامعة "سكاريا" التركية، محمد سليمان الزواوي، أن "الدعوات لتدوير منصب الأمين العام تكشف خلافات عميقة في رؤى الدول العربية وأزمات المنطقة، والتي تظهر في التعامل مع ملفي إسرائيل وإيران".
ويضيف أن "هذه الدعوات تؤشر أيضاً إلى انتقال مركز ثقل صنع القرار العربي نحو الخليج، فالدول الخليجية تتمتع باستقرار ووفرة مالية وديناميكية سياسية، في مقابل تراجع القدرات المصرية في إدارة ملفاتها الداخلية".
وحول ضرورة نقل الجامعة العربية بعد ضعف دورها، يعتقد الزواوي أن "نقل الجامعة لن يقوي القرار العربي بقدر ما سيضبط بوصلته حسب المصالح الخليجية، وترتبط هذه المصالح، بتعزيز التحالف مع الولايات المتحدة".
ويوضح أن نقل المقر وتدوير منصب الأمين العام سيعزز قدرة دول الخليج على استصدار القرارات والمواقف التي تتوافق مع متطلبات أمنهم القومي.
فيما إذا كان نقل مقر الجامعة من القاهرة إلى الرياض مجرد تكهنات إعلامية أم مؤشر على نوايا سياسية أعمق، يرى الزواوي أنه في كلا الحالتين "هو مؤشر على انقسامات وقناعة خليجية بضرورة انتقال مركز ثقل صنع القرار العربي إلى الخليج".
وعن متطلبات تحول الجامعة العربية من تكتل رمزي إلى فاعل مؤثر، يؤكد الزواوي أنها تحتاج إلى الاستقلال السياسي والحفاظ على السيادة الوطنية للدول الأعضاء.
ويختتم الزواوي حديثه بتأكيد أهمية احترام الإرادة الشعبية والحفاظ على منظومة القيم العربية، مشدداً على ضرورة التعاضد والأخوة ونصرة المظلوم، وتفعيل مواثيق الدفاع المشترك، واستغلال عوامل القوة للحفاظ على المصالح المشتركة.
جدل المقر والهوية
أثار مقترح نقل مقر جامعة الدول العربية من القاهرة إلى الرياض، تفاعلاً حاداً في الأوساط المصرية، لما يحمله من أبعاد تتعلق بالرمزية التاريخية والدور القيادي لمصر في المنظومة العربية.
جاء ذلك بعد دعوة أطلقها نائب رئيس مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، عماد جاد، في تدوينة عبر "فيسبوك"، حول نقل مقر الجامعة العربية إلى السعودية وتولي شخصية سعودية منصب الأمين العام.
ووصف جاد هذه الخطوة بأنها "قرار موضوعي ومفيد لكافة الدول العربية"، مضيفاً أن التوازنات الراهنة تجعل من المملكة "المرشح الأنسب لقيادة الجامعة" بحكم أنها تمثل "منشأ العرب الأصلي".
هذا التصريح واجه انتقادات لاذعة من شخصيات دينية وسياسية، -بحسب صحيفة القدس العربي- حيث اعتبر الإمام والخطيب بجامع عمر مكرم، الدكتور مظهر شاهين، أن الطرح "يحمل تلميحاً خطيراً بإعادة تعريف الانتماء العربي على أسس جغرافية وعرقية، لا حضارية وثقافية"، محذراً من تداعياته على وحدة الأمة ودور مصر القيادي.
وفي السياق ذاته، قال وزير القوى العاملة الأسبق، والقيادي القومي كمال أبو عيطة لصحيفة القدس العربي" في 8 يونيو 2025، إن دعوة "جاد" لا تعبّر عن هوى مصري، ومصر ستظل قلب الأمة ومركزها التاريخي".
وأكد أبو عيطة أن القيادة المصرية لم تكن يوماً طارئة على المشروع العربي، بل كانت دوماً ركيزته ودرعه الحامي.
منذ تأسيس جامعة الدول العربية في مارس 1945، كان مقرها الدائم في القاهرة، إلا أن هذا الوضع تغيّر مؤقتاً عام 1979، حين قررت معظم الدول العربية نقل المقر إلى تونس وتعليق عضوية مصر، احتجاجاً على توقيعها اتفاقية السلام مع إسرائيل.
وظلّ المقر في تونس لعقد من الزمن، قبل أن تعود الجامعة إلى القاهرة عام 1990 بعد استعادة مصر علاقاتها العربية، ليُعاد افتتاح المقر ورفع العلم المصري عليه، وتستعيد مصر موقعها كمقر دائم للجامعة.
وتكشف التحركات الأخيرة بشأن منصب الأمين العام لجامعة الدول العربية والمطالبات الخليجية المتزايدة بدور أكبر داخل أروقة الجامعة، عن تحول بنيوي في مراكز الثقل الإقليمي.
وبينما تسعى دول الخليج، بقيادة السعودية، إلى تفعيل أدوارها السياسية بما يتماشى مع قوتها الاقتصادية والدبلوماسية، تتشبث مصر برمزيتها التاريخية كمركز للقرار العربي.