حق النقض الأمريكي.. أداة لإفلات "إسرائيل" وكارثة مفتوحة في غزة
رغم أن واشنطن تعلن على جميع المنابر أنها "تتحرك بكل الوسائل لوقف الحرب في غزة"، فإن سلوكها في مجلس الأمن يُظهر صورة مغايرة، فبينما تنشط عبر قنوات الوساطة الإقليمية، لا تتردد في استخدام أدوات الضغط الدبلوماسي لحماية "إسرائيل" من أي مساءلة دولية.
في الوقت ذاته تجري الإدارة الأمريكية مباحثات نشطة مع وسطاء إقليميين، أبرزهم قطر ومصر، في محاولة للتوصل إلى هدنة متفاوض عليها، لكن استخدامها المتكرر للفيتو يعكس تناقضاً صارخاً بين تصريحاتها وسلوكها الرسمي في الأمم المتحدة.
جاء الفيتو الأخير، يوم الثلاثاء (4 يونيو 2025)، ليعيد إلى الواجهة هذا التناقض، بعد أن أسقطت واشنطن مشروع قرار يدعو إلى وقف فوري وغير مشروط لإطلاق النار، وسط تصاعد الغضب الدولي من استمرار المجازر في القطاع.
القرار الأخير
مشروع القرار الذي قدمته مجموعة الدول العشر المنتخبة في مجلس الأمن، بقيادة الجزائر وسلوفينيا، طُرح على التصويت مساء الـ4 من يونيو، وحصل على تأييد 14 دولة من أصل 15، فيما صوتت الولايات المتحدة ضده باستخدام حق النقض.
كان نص القرار واضحاً ومباشراً: "المطالبة بوقف فوري وغير مشروط لجميع الأعمال القتالية في قطاع غزة، وضمان دخول المساعدات الإنسانية بحرية ودون عوائق، والإفراج عن جميع الرهائن، وتأكيد احترام القانون الدولي الإنساني، ولا سيما حماية المدنيين والمنشآت المدنية".
السفير السلوفيني صاموئيل زبوغار، منسق مجموعة العشر، أوضح أن النص جاء بعد جولات مكثفة من المشاورات مع جميع أعضاء المجلس، وأضاف أن الهدف من القرار كان "معالجة الجانب الإنساني البحت" للأزمة، وليس التدخل في تفاصيل التسوية السياسية.
ورغم محاولات تعديل الصياغة لإرضاء جميع الأطراف، أصرت الولايات المتحدة على أن المشروع "غير متوازن".
وحق الفيتو هو صلاحية تمنح للأعضاء الخمسة الدائمين في مجلس الأمن (الولايات المتحدة، وروسيا، والصين، وفرنسا، والمملكة المتحدة) لرفض أي مشروع قرار، مما يمنع اعتماده حتى لو حصل على تأييد الأغلبية.
مبررات واشنطن
خلال الجلسة بررت مندوبة واشنطن دوروثي شيا الفيتو بأن القرار "يفشل في إدانة حركة حماس"، ولا يطالبها بنزع سلاحها أو مغادرة غزة.
وأضافت أن "إسرائيل" لها الحق الكامل في الدفاع عن نفسها، ولن تشعر بالأمان طالما بقيت "حماس" قادرة على شن هجمات.
وأشارت شيا إلى أن الإدارة الأمريكية "تعمل بنشاط مع وسطاء إقليميين، خاصة قطر"، للتوصل إلى اتفاق وقف إطلاق نار متفاوض عليه، محذرة من أن إقرار مشروع القرار كان من شأنه "تعقيد تلك الجهود الجارية".
في المقابل، قال السفير الجزائري عمار بن جامع، في خطاب حاد: إن "الصمت لا يحمي الضحايا"، واتهم المجلس، وتلميحاً واشنطن، بعرقلة العدالة، مشيراً إلى أن الجزائر "ستعود مراراً إلى المجلس حتى يتحقق وقف إطلاق النار".
من جهته أعلن السفير الفلسطيني رياض منصور أن بلاده ستنقل المعركة الدبلوماسية إلى الجمعية العامة بعد الفيتو الأمريكي. واصفاً الفيتو بأنه "غطاء سياسي لاستمرار المجازر في غزة".
هل هناك تناقض في الموقف؟
المفارقة أن هذا الفيتو يأتي في الوقت الذي تنشط فيه واشنطن، بحسب بياناتها الرسمية، في دعم وساطات قطرية ومصرية تهدف للوصول إلى اتفاق وقف إطلاق النار، فالمبعوث الأمريكي الخاص، ومعه مدير وكالة الاستخبارات المركزية (CIA)، أجروا عدة جولات في الدوحة والقاهرة خلال مايو ومطلع يونيو.
هذا الفيتو ليس معزولاً، فمنذ بدء حرب غزة الأخيرة، استخدمت واشنطن الفيتو ثلاث مرات لمنع صدور قرارات تطالب بوقف النار، وكانت:
18 أكتوبر 2023: استخدمت الولايات المتحدة الفيتو ضد مشروع قرار يدعو إلى "وقف إنساني" للعمليات العسكرية في غزة، بحجة أنه لا يدين هجوم "حماس" في 7 أكتوبر.
8 ديسمبر 2023: استخدمت أمريكا الفيتو ضد مشروع قرار يدعو إلى وقف إطلاق النار لأسباب إنسانية، رغم تأييد 13 عضواً آخر في المجلس.
20 فبراير 2024: استخدمت الولايات المتحدة الفيتو ضد مشروع قرار قدمته الجزائر يدعو إلى وقف فوري لإطلاق النار في غزة، بحجة أنه لا يربط الهدنة بالإفراج عن الرهائن.
داعم للاحتلال
يقول الباحث في العلاقات الدولية محمود علوش، إن "الولايات المتحدة لا تزال تعمل كعنصر دعم رئيسي للموقف الإسرائيلي في الساحة الدولية، وهو ما تجلى مجدداً في استخدامها حق النقض (الفيتو) ضد مشروع قرار في مجلس الأمن لوقف الحرب في غزة".
وأضاف: "هذه ليست المرة الأولى التي تلجأ فيها واشنطن إلى الفيتو لحماية إسرائيل من المساءلة الدولية".
وأشار علوش إلى أن "الموقف الأمريكي خلال الحرب الراهنة كان سبباً رئيسياً في إطالة أمدها"، موضحاً أنه "لا إدارة الرئيس بايدن سابقاً، ولا إدارة الرئيس ترامب حالياً، مارستا ضغطاً كافياً على بنيامين نتنياهو لوقف الحرب، رغم امتلاك واشنطن أدوات قادرة على التأثير".
وتابع قائلاً: "صحيح أن هناك مؤشرات على توجه الإدارة الأمريكية حالياً لممارسة مزيد من الضغط على الحكومة الإسرائيلية، لكن هذا الضغط لا يزال عاجزاً حتى الآن عن دفع نتنياهو إلى تغيير مسار الحرب".
وحذر علوش من أن "استمرار الحرب مدة طويلة يلحق أضراراً بالمصالح الأمريكية في المنطقة"، معتبراً أن "التعاطي الدولي -والأمريكي خصوصاً- مع استمرار هذه الحرب وكأنها أصبحت أمراً طبيعياً، هو توجه خطير".
وأكمل: "إطالة أمد هذا النهج لن يحقق نتائج تنسجم مع المصالح الاستراتيجية الأمريكية في الشرق الأوسط".
أمريكا والفيتو لـ"إسرائيل"
منذ عام 1972، استخدمت الولايات المتحدة حق النقض أكثر من 50 مرة لحماية "إسرائيل" من قرارات مجلس الأمن التي تنتقد سياساتها أو تدعو إلى إنهاء احتلالها للأراضي الفلسطينية.
وهذا يمثل أكثر من نصف إجمالي الفيتوات الأمريكية في المجلس، مما يبرز التزام واشنطن الثابت بدعم تل أبيب، حتى على حساب القانون الدولي وحقوق الإنسان.
ومن أبرز الأمثلة على استخدام الفيتو الأمريكي لدعم "إسرائيل":
1972: استخدمت الولايات المتحدة الفيتو ضد مشروع قرار يدين العدوان الإسرائيلي على لبنان.
1982: خلال الاجتياح الإسرائيلي للبنان، استخدمت واشنطن الفيتو عدة مرات لمنع صدور قرارات تدين العمليات العسكرية الإسرائيلية.
2011: استخدمت الولايات المتحدة الفيتو ضد مشروع قرار يدين بناء المستوطنات الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية المحتلة، رغم تأييد 14 عضواً آخر في المجلس.
2017: استخدمت الولايات المتحدة الفيتو ضد مشروع قرار يرفض إعلان القدس عاصمة لـ"إسرائيل"، بعد قرار إدارة ترامب نقل السفارة الأمريكية إلى المدينة.