عن جامعة الدول العربية وسؤال الجدوى
أكّد انعقاد القمّة العربية في بغداد (17 مايو/ أيار 2025) الانطباعَ التاريخي الذي ترسّخ في الوعي العربي عن فشل جامعة الدول العربية وعجزها، انعكاساً آلياً لغياب الفاعلية الذي رافق العمل العربي المشترك منذ تأسيس الجامعة سنة 1945.
والحقيقة أن هذه المنظّمة التي تأسّست كياناً يدفع نحو الوحدة العربية أصبحت أصدق من يعبّر عن حالة الشتات العربي.
منذ تأسيس الجامعة ووصولاً إلى مؤتمر بغداد، عقد القادة العرب 34 اجتماع قمّة، بينها 26 قمّة عادية وتسع طارئة، وكانت القضية الفلسطينية حاضرةً بشكل دائم في كلّ قرارات هذه القمم، وهي قرارات لا تجد طريقها أبداً إلى التنفيذ.
لم يخرج البيان الختامي لقمّة بغداد عن التقليد المعتاد لاجتماعات جامعة الدول العربية، فحثّت القمّة "الدول والمؤسّسات المالية الدولية والإقليمية على سرعة تقديم الدعم المالي اللازم" للخطة العربية لإعادة إعمار غزّة،
التي قُدِّمت بديلاً لاقتراح الرئيس الأميركي دونالد ترامب، الذي قال إنه يريد السيطرة على القطاع. ودعت القمّة (كما هو متوقع) أيضاً إلى مزيد من الضغوط الدولية "لوقف إراقة الدماء" في قطاع غزّة، حيث أعلنت إسرائيل تكثيف هجومها، وحثت القمّة "المجتمع الدولي،
وخاصّة تلك الدول القادرة على التأثير، على تحمّل مسؤولياتها الأخلاقية والقانونية للضغط ووقف إراقة الدماء وضمان دخول المساعدات الإنسانية العاجلة" إلى الأراضي الفلسطينية المحاصرة،
بحسب البيان الختامي الذي لم يتضمّن غير النداءات المعتادة والتوسّل إلى المجتمع الدولي لإيقاف الإبادة الصهيونية للشعب الفلسطيني، من دون أن تكون هناك إجراءات فعلية لوقف
ما يجري في الأرض الفلسطينية من مجازر، فعقلية الشجب والتنديد المسيطرة على القمم العربية تعيد إنتاج ذاتها بشكل متكرّر، إلى الحدّ الذي يجعل بيانات القمم المتتالية متماثلةً لفظاً ومعنىً، وتحديداً في ما يتعلّق بالقضية الفلسطينية.
واقعياً، فقدت جامعة الدول العربية مبرّر وجودها، وأصبحت مجرّد جهاز إقليمي يعاني الهرم والعجز، وتجد فيه بعض الأنظمة العربية متنفّساً لتبرير مواقفها أو توجيه رسائلَ من خلال الجامعة تعجز عن توجيهها بشكل مباشر إلى القوى الدولية المسيطرة.
ولهذا فمن سوء التقدير تحميل الجامعة ما لا تقدر عليه، أو أن نتوقّع منها تلبية ما يرغب فيه الشارع العربي، بقدر ما هي تعبير عن حالة الفشل العربي، والخيبة التي أصابت أجيالاً عربيةً متعاقبةً كانت تحلم بالوحدة.
وليس من المُستغرَب أن يكون أداء الجامعة العربية مناقضاً لرغبات الشعوب، لأنها ببساطة جامعة أنظمة سلطوية، وليست اتحاداً حرّاً للشعوب.
وبالعودة إلى ملابسات تأسيسها ومنذ البداية، نلاحظ أنه في حين تطلّع الهاشميون، الذين كانوا يحكمون العراق والأردن، إلى دولة عربية كبيرة موحّدة، فإن المصريين والسعوديين واليمنيين (المؤسّسين الأوائل) فضّلوا الحديث عن التعاون مع احترام استقلال وسيادة كلّ دولة.
وفي نظر القاهرة والرياض، فإن الجامعة مجرّد أداة لخدمة تأكيد نفوذهما في الساحة الدولية قوّتَين إقليميتَين، وقد حظيتا بدعم بريطانيا العظمى، التي كانت تتمتع في ذلك الوقت بنفوذ كبير في المنطقة،
بينما ظلّت معاديةً لإنشاء دولة عربية موحّدة. في البداية، ركّزت القوى الرئيسة في الجامعة في تلبية احتياجات لندن، فلم يكن إنهاء الاستعمار في العالم العربي مدرجاً صراحةً ضمن أهداف الميثاق التأسيسي.
وليس من المستغرب أن مصطلحات التحالف والوحدة والاتحاد والكونفدرالية لا تظهر على الإطلاق في النصّ التأسيسي.
ورغم محاولات تفعيل الجامعة، بعد وصول التيّارات القومية إلى الحكم في مصر والعراق وسورية، إلا أن الجامعة ظلّت خاضعةً للخلافات المزاجية بين الأنظمة العربية التي لا تكاد تتوقّف عن التنازع، فالعالم العربي لا يتحدّث بصوت واحد، بل تشقّه صراعات حادّة تتغذّى من الطموحات الفردية التي تحكم الأنظمة.
وعلى الرغم من الهجوم الوحشي على غزّة، وعلى الرغم من الدبلوماسية المدمّرة لدونالد ترامب، لا يزال لدى واشنطن أصدقاء وحلفاء لن يضحّوا بأعمالهم، واستثماراتهم، وشبكاتهم... من أجل القضية الفلسطينية.
يستمرّ القصف الإسرائيلي على قطاع غزّة، والكارثة الإنسانية التي حاقت بقاطنيه، وتتواصل عربدة الجيش الإسرائيلي الذي لا يزال يحتلّ جنوب لبنان، وينفّذ عمليات في الأراضي السورية، وصعوبة تحديد مستقبل هذا البلد، ويستمرّ اليمن والسودان وليبيا واقعةً في قبضة الصراعات الداخلية.
رغم ذلك، تتراكم الإخفاقات البنيوية لجامعة الدول العربية، سواء عبر عجزها عن دعم الفلسطينيين، أو حتى عن حلّ النزاعات بين الدول الأعضاء، وهو ما يعني واقعياً نهاية الجامعة، وتحوّلها كياناً هامشياً لا لزوم له.
سمير حمدي
كاتب وباحث تونسي