ترمب الشرق أوسطي وعالم تواطؤ الكبار
الرئيس دونالد ترمب مارس سياسة "تطويع الأزمات" لأجل زيارته إلى السعودية والإمارات وقطر، فقد أوقف النار بين الهند وباكستان، وضغط من أجل تسوية في غزة يرافقها توزيع مساعدات عاجلة من خلال شركة أميركية، وضغط أميركي وأوروبي على الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لوقف إطلاق النار في أوكرانيا على مدى 30 يوماً، ومعاودة المفاوضات مع إيران بوساطة عُمان حول الملف النووي، والكل يتوقع مفاجآت من سيد البيت الأبيض.
لكن رجل المفاجآت والارتجال ليس عفوياً كما يوحي، فهو يسير على طريق مرسوم أوله وآخره "أميركا أولاً"، وأسلوبه في ممارسة السياسة في المجالين الإستراتيجي والتكتيكي ثابت، بصرف النظر عن التفاصيل، والتهويل واستخدام العصا أولاً ثم فتح الباب للبحث في صفقة.
وهكذا فعل عندما قرر رفع الرسوم الجمركية على الخصوم والحلفاء قبل أن يعلق بعضها ويخفض بعضها الآخر، ويفتح ورشة صفقات مع أوروبا وآسيا وأفريقيا وصولاً إلى الصين، وهي الهدف الأكبر الذي أصبح على طاولة التفاوض في جنيف،
وهكذا فعل عندما طرد الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي من المكتب البيضوي في البيت الأبيض بعد تأنيبه والتناوب مع نائبه جي دي فانس على إهانة الضيف، قبل أن يلتقي به في روما ويحصل على صفقة المعادن الثمينة في أوكرانيا،
وهكذا فعل مع الحوثيين الذين يهددون حرية الملاحة في البحر الأحمر وباب المندب وبحر العرب، إذ أمر بقصف مستمر يومياً على مدى أسابيع لكل مواقع الحوثيين في الحديدة ورأس عيسى وصنعاء وصعدة، قبل التوصل إلى اتفاق على وقف النار بمسعى من سلطنة عُمان.
وليس سراً أن ترمب ينظر إلى الشرق الأوسط بعيون إسرائيل، غير أنه وجد نفسه مضطراً، بعد عناد بنيامين نتنياهو المتلاعب بأميركا ورئيسها، إلى فتح عينيه على المصالح الأميركية التي يعرقلها نتنياهو،
فضلاً عن توقفه أمام الوزن المهم للعالم العربي، وبالذات الخليج والقيادة السعودية، خلافاً للنظرة التي تحدث عنها ريتشارد هاس عندما دعا إلى تصحيح سياسة أميركا التي "ركزت على منطقة تضم خمسة في المئة من سكان العالم، ولا قوى كبرى فيها ولا اقتصاد سوى الاعتماد على استخراج النفط"،
وهذا أعلن عكسه قائد القيادة الوسطى الجنرال مايكل كوريللا بالقول "إن أميركا ستخسر الشرق الأوسط إذا تنازلت عن هذه المنطقة لإيران والإرهاب والصين، وهي منطقة ذات أهمية حيوية لإمداد الطاقة العالمية وضرورية لتدفق التجارة العالمية، وتوفير عمق إستراتيجي للدفاع عن أميركا".
وخلافاً لرؤساء أميركا منذ الحرب العالمية الثانية، فإن ترمب لا يقيم وزناً للتحالف مع أوروبا، ولا يرى ضرورة لاستمرار الإنفاق الأميركي على الـ "ناتو" إن لم ترفع الدول الأوروبية داخل الحلف موازناتها العسكرية، لا إلى اثنين في المئة من الناتج القومي، كما كان يطالب في الولاية الأولى، بل إلى خمسة في المئة،
فالأنظار منذ رئاسة باراك أوباما موجهة نحو ما سمّاه "المحور" في الشرق الأقصى، حيث الثروة والقوة والصراع مع الصين وروسيا، وترمب ليس خارج هذه النظرة التي بدأت بالتخفف من الالتزامات الأميركية في الشرق الأوسط وانتهت بتصاعد قوة الصين في الشرق الأقصى والانتقامية الروسية، وخسارة كثير في الشرق الأوسط لمصلحة إيران.
لكن ترمب يبدو وكأنه متحمس لنظرة إستراتيجية وجيوسياسية مختلفة، وهذا ما عبّر عنه البروفسور في العلوم السياسية ستاسي غودارد في مقالة نشرتها "فورين أفيرز"،
فالعالم كما يراه ترمب "ليس ميدان تنافس بين القوى الكبرى بل مكان تواطؤ بينها"، وهو يريد التعاون مع الصين وروسيا بدل التنافس العدائي، لا بل إنه يمارس التنمر على حلفائه في أوروبا وكندا، وهو ينتقل مع خصومه من التنافس إلى التعاون.
والنموذج الجديد للتواطؤ بين القوى الكبرى هو النموذج القديم الذي هندسه مستشار النمسا مترنيخ بعد "حروب نابوليون" و"الثورة الفرنسية" وسُمي "كونسرت أوروبا"، أي اتفاق أو تناغم القوى الأوروبية الذي حفظ الاستقرار في القارة القديمة حتى نهاية القرن الـ 19،
ولا أحد بالطبع يتصور أن ترمب من تلاميذ كيسينجر الذي هو من تلاميذ مترنيخ ونظرية "توازن القوى"، وأنه صاحب فهم عميق لأوروبا في التاريخ،
فهو كما يقول غودارد يرى أن العالم "عقار على نطاق واسع"، لا بل يحسب أن إرضاء روسيا في أوكرانيا وإرضاء الصين في الرسوم الجمركية ومسألة تايوان مقدمة لنوع من "التنافس، لا بين أعداء بل بين متكافئين محترمين".
وفي المقابل فإن ترمب "يعيد اكتشاف الدبلوماسية الكلاسيكية في زمن عودة دبلوماسية القوى الكبرى"، كما يقول ويس ميتشل مؤلف "دبلوماسية القوى الكبرى"،
وهي وسيلة لربح الوقت، لأن أميركا "لا تستطيع خوض حرب مع قوتين في وقت واحد، وهي تحتاج إلى 10 أعوام كي تبني قوة عسكرية قادرة على مواجهة أعدائها".
دبلوماسية وتواطؤ وتنافس واستعداد لحروب، هذا هو العالم الجديد القديم الذي نعيش فيه شئنا أم أبينا، والكل، لا أميركا وحدها، يمارس ما سمّاه الوزير الفرنسي سابقاً دوفيلبان سياسة "الافتراس".
رفيق خوري
كاتب لبناني