Logo

حضرموت... ساحة لمشاريع يمنية متقاطعة

 تشهد محافظة حضرموت تصعيداً سياسيّاً متزايداً، في ظل تنافس محموم بين قوى متعدّدة تسعى إلى فرض رؤاها وإعادة تموضعها ضمن خريطة السلطة، وسط سياقٍ محليٍّ بالغ التعقيد. 

ورغم ما عُرفت به المحافظة، التي تشكّل أكثر من ثلث مساحة اليمن، من هدوء نسبي خلال العقد الماضي، إلّا أن ذلك الاستقرار الظاهري لم يكن سوى غطاءٍ لهشاشة في البنية السياسية والعسكرية والاقتصادية. 

اليوم، باتت حضرموت في صلب صراع المشاريع المصيرية التي تروّجها القوى الفاعلة، سواء الداعية إلى الوحدة أو المطالبة بالانفصال أو الساعية إلى الحكم الذاتي، ما يضع مستقبل المجلس الانتقالي الجنوبي ، على وجه الخصوص، أمام تحدٍّ وجودي. 

وقد شكّلت زيارة رئيس المجلس، عيدروس الزبيدي، حضرموت، في مارس/ آذار الماضي، نقطةَ تحوّل، إذ حرّكت المياه الراكدة وأثارت سجالاً واسعاً، خاصة بعد اتهام الزبيدي حلف قبائل حضرموت، وهو المكوّن الذي يرفع مطالب إصلاحية، بالتنسيق مع الحوثيين وإيران. 

قوبلت هذه التصريحات برفض صريح من رئيس الحلف، عمرو بن حبريش، الذي قال في خطاب إن مجلس القيادة الرئاسي وأعضاءه، وبينهم الزبيدي، غير مرحّب بهم في حضرموت، في موقفٍ أثار ردود فعل واسعة.

إثر ذلك، تصاعدت وتيرة الاستنفار الشعبي والإعلامي في إطار سباق محتدمٍ لاستعراض القوة وتأكيد النفوذ الشعبي والعسكري، والحضور على الأرض، 

بينما توجّه أطراف محلية اتهامات صريحة للمجلس الانتقالي بنقل مسلّحين من خارج المحافظة إلى المكلا (عاصمة حضرموت)، في خطوةٍ يعتبرها بعض قادة المكوّنات الحضرمية تمهيداً لتفجير الوضع عسكرياً، وإغراق المحافظة في دوامة من الفوضى والاضطراب.

 ورغم أن المجلس الانتقالي تمكّن في السنوات الماضية من فرض إرادته بالقوة العسكرية في محافظات جنوبية عدة، مثل عدن وأبين وشبوة، مستفيداً من دعم إماراتي مكثف، شمل الإسناد الجوي واللوجيستي في مواجهة الخصوم السياسيين، بمن فيهم قوات الحكومة الشرعية،

 إلا أن المشهد في حضرموت يختلف جذريّاً، فالمحافظة تمثل أهمية كبيرة للسعودية بسبب حدودها الجغرافية الواسعة مع المملكة. 

وبالتالي، أي محاولة من "الانتقالي" لفرض سيطرته على حضرموت تصطدم مباشرة بالحسابات السعودية التي ترفض المساس بتوازنات القوى في هذه المحافظة الحيوية في شرق اليمن. 

وقد سارعت الرياض في الدخول على خط الأزمة بين "الانتقالي" وحلف قبائل حضرموت مباشرة، من خلال استدعاء بن حبريش إلى الرياض، ولقائه بوزير الدفاع السعودي خالد بن سلمان، في خطوةٍ تعكس اهتمام المملكة الكبير بضبط إيقاع التصعيد في المحافظة، ومنع "الانتقالي" من بسط هيمنته على هذه المحافظة الاستراتيجية.
 
وفي رسائلهم الصريحة إلى القوى الانفصالية بالكفّ عن محاولات فرض الهيمنة على حضرموت، عادة ما يشدّد القادة الحضارم على رفضهم أي تدخّلات أو "وصاية خارجية"، ويطالبون بمنح أبناء المحافظة الحقّ في إدارة شؤونهم بأنفسهم، وتحسين الخدمات العامة وتوزيع الثروات بعدل، وإخراج القوات العسكرية غير الحضرمية من المحافظة وتشكيل قوات أمنية محلية.

 كذلك يُشدّدون على أن حضرموت تتمتع بخصوصية تاريخية وثقافية تجعلها تستحقّ حقّ "الحكم الذاتي"، مع تأكيد أهمية إجراء حوار وطني شامل ينصف مطالبها المشروعة في أي تسوية سياسية مقبلة.

ومما أسهم في تعزيز حالة عدم الثقة تجاه "الانتقالي" في حضرموت إخفاقه في معالجة الاختلالات الأمنية والخدمية في عدن وبقية المناطق الواقعة تحت سيطرته. 

وعلى ضوء ذلك، تبدو الحاجة ملحة أمام القيادات الانفصالية لإعادة النظر في خطابها السياسي وخياراتها المرحلية، وربما مراجعة مشروعها برمّته، لا سيما أن حضرموت، بما تملكه من موقع مهم وثروات طبيعية، تشكل حجر الأساس لأي تصور انفصالي مستقبلي، وخروجها من المعادلة يُفقد ذلك المشروع أهم أركانه السياسية والاقتصادية والاجتماعية.

 وفي حال تمكنت المكونات الحضرمية من إحراز تقدّم ملموس في تصوّرها السياسي، وهو ما يبدو عليه الأمر من خلال الاصطفاف الراهن لمكوّنات حضرمية واسعة خلف حلف قبائل حضرموت، فذلك قد يشكل قوة جذب للمحافظات الجنوبية المجاورة (المهرة وشبوة وسقطرى) للانضمام إلى المكوّن الحضرمي، نظراً إلى ما يجمعها مع حضرموت من مصالح اقتصادية وروابط اجتماعية وثقافية متجذّرة. 

ومن شأن انخراط هذه المحافظات في المسار الحضرمي أن يوجّه ضربة قاسية للمجلس الانتقالي الجنوبي، ويقوّض طموحاته في احتكار تمثيل الجنوب.
 
وفي ظل مشهد عسكري متداخل تتقاسمه تشكيلاتٌ متعدّدة الولاءات، وكل منها يحظى بدعم إماراتي أو سعودي، تتصدّر الترتيبات الأمنية والعسكرية قائمة التحديات التي تُهدّد استقرار حضرموت، 

كما أن تعدد التبعية يجعل أي محاولة لتوحيد القرار العسكري والأمني تحدّياً بالغ الصعوبة، بالتوازي مع غياب إطار جامع ورؤية واضحة لإعادة هيكلة هذه القوى ضمن منظومة تخدم الاستقرار المحلي. 

وفي سياق هذا المشهد، تقف الحكومة الشرعية موقف المتفرّج عاجزة عن تقديم أي مبادرة، لا في الاستجابة لمطالب الحضارم، ولا في ضبط التنافس المحلي والإقليمي داخل المحافظة. 

وبهذا الغياب، تجد القوى الخارجية نفسها في موقع المقرّر الفعلي لمستقبل حضرموت، بعيداً عن أي دور وازن للدولة المركزية. 

وفي خضم هذه التجاذبات، برز على الساحة "تيار التغيير والحرية"، وقد أثار ظهوره المفاجئ موجةً من التكهنات بشأن أجندته وأهدافه والأطراف خلفه. 

يقوده أبو عمر النهدي (عضو سابق في تنظيم القاعدة أعلن انشقاقه عام 2018) يروّج خطاباً يدعو إلى الحفاظ على وحدة اليمن، وتعزيز السلم الأهلي، وتحرير البلاد بالوسائل السلمية، مع التأكيد، في الوقت نفسه، على هوية حضرموت وحقّ أبنائها في تقرير مصيرهم، في إطار دولة يمنية عادلة وديمقراطية، على الرغم من خلفية النهدي المثيرة للجدل.
 
وأمام هذا المشهد المليء بالتجاذبات، تزداد أهمية حضرموت عنصراً محورياً في المشاريع المختلفة لمستقبل اليمن. 

ورغم الطابع السلمي الذي يميز التحرّكات الحالية في حضرموت، فإن استمرار الاستقطاب وغياب التفاهم بين القوى المختلفة قد يفاقم الوضع، ويحوّل التجييش الحالي إلى توتر ميداني تصعب السيطرة عليه، خصوصاً إذا شعرت بعض الأطراف بأن موازين القوى قد انقلبت ضد مصالحها. ففي لحظة إرباك أو تصعيد غير مدروس، قد تؤول الأمور إلى ما لا تُحمد عقباه. 

ومع تعقيد الوضع وتشابك الحسابات المحلية والإقليمية، لا تلوح في الأفق أي مؤشّرات حقيقية على وجود إرادة جادّة لتجاوز الاصطفافات الراهنة، والعمل على صياغة رؤية وطنية شاملة، تفتح الطريق نحو توافق حقيقي، تضمن استقرار حضرموت واليمن ككل، وتجنب البلاد المزيد من الأزمات التي ستخلف تداعياتٍ مؤلمةً على الجميع.

ياسر عزي
صحافي يمني