المشهد اليمني اليوم يقف أمام مفترق طرق
لم يعد المشهد السياسي والعسكري في اليمن يحتمل المزيد من الغموض، ولم تعد جماعة الحوثي تمتلك أي مقومات للبقاء، لا اجتماعيًا، ولا سياسيًا، ولا اقتصاديًا.
فمنذ أن فرضت سلطتها بالقوة، وهي تعيش على وهم الاستقرار المستمد من القهر والقمع، إلا أن عوامل الانهيار تتزايد يومًا بعد يوم، مهددةً بتفكك هذا الكيان الذي بنى وجوده على العنف والتضليل.
الحوثية ليست مجرد جماعة مسلحة، بل حالة سياسية ونفسية تُغذيها أيديولوجيات مغلقة، وتُكرّس وجودها عبر قمع الإنسان وقهر الحرية.
لكن هذا الوجود، مهما حاول أن يصمد، يحمل في داخله بذور الانهيار؛ لأن أي منظومة تُبنى على القهر لا يمكن أن تُكتب لها الاستمرارية، مهما بلغت وحشية أدواتها.
ومع ذلك، لا تزال أطرافٌ داخل السلطة الشرعية تتعامل مع التحرك للقضاء على الحوثية بحذرٍ غير مبرر، مما يُطيل عمر الأزمة، ويجعل الحسم العسكري للأزمة اليمنية أكثر تعقيدًا.
سقوط الجماعة الحوثية ليس مجرد احتمالية، بل هو حتمية فرضتها عدة عوامل جوهرية، لعل أبرزها انهيار الحاضنة الشعبية التي كانت تشكل الغطاء الداخلي لهذه الجماعة، بالإضافة إلى انكشاف زيف خطابها السياسي داخليًا وإقليميًا.
لم تعد هذه الجماعة تمتلك الأدوات التي تجعلها طرفًا مقبولًا في أي مشهدٍ مستقبلي؛ فقد فقدت قدرتها على إدارة الواقع وأغرقت المجتمع في أزماتٍ اقتصادية واجتماعية خانقة، ونهبت الموارد لتمويل حروبها العبثية، وسقطت وعودها تحت وطأة الفساد والنهب.
ومع ذلك، يظل السؤال الحقيقي: لماذا، رغم كل المؤشرات التي تؤكد ضعف جماعة الحوثيين، لا يزال سقوطهم مؤجلًا؟ لماذا، رغم تهاوي مشروعهم السياسي وانكشاف زيف خطابهم داخليًا وخارجيًا، لا يزالون قادرين على الاستمرار؟
الإجابة لا ترتبط فقط بعوامل القوة الذاتية لهذه الجماعة، التي تستند إلى أدوات القمع والسيطرة المطلقة، بل تتعلق بغياب الجرأة للحسم من الطرف الآخر، وبالتردد السياسي الذي جعل الشرعية رهينة صراعاتها الداخلية، بدلًا من أن تتحول إلى قوةٍ تعيد تشكيل المعادلة لصالح الدولة.
حين ننظر إلى السلطة الشرعية، نرى مفارقةً مؤلمةً في أداء أطرافها؛ فهي تُمسك بمفاتيح إنهاء الصراع، لكنها تتردد، وتسمح للخلافات الداخلية والدسائس السياسية بأن تُضعف موقفها.
وبينما يفقد الحوثيون الأرضية السياسية والشعبية التي مكنتهم من فرض هيمنتهم، يظل الصراع مفتوحًا بسبب غياب القرار الحاسم من الشرعية، التي تبدو مُثقلةً بالحسابات الداخلية وبالتحالفات الهشة، مما يجعلها غير قادرةٍ على وضع حدٍّ لهذا المشهد الدامي.
وهذا ما يجعل الشرعية غير قادرةٍ على استثمار هذه اللحظة التاريخية، إذ لا تزال تتعامل بارتباكٍ سياسي يُعرقل قدرتها على فرض واقعٍ جديدٍ وإسقاط جماعة الحوثي.
وهنا يكمن المأزق الحقيقي؛ فبينما تتهالك منظومة الحوثيين، تظل الأزمة قائمة لأن الطرف الآخر لم يُحوِّل ضعفهم إلى فرصةٍ لإنهاء الأزمة بالكامل.
هذا التردد والارتباك السياسي للشرعية، الذي يُطيل أمد الأزمة، يفتح المجال أمام الحوثيين لإعادة استعادة أنفاسهم للحرب من جديد، وزرع المزيد من الفوضى في المشهد.
لكن هذا لا يُغير حقيقة أن الحوثيين في حالة انهيارٍ داخلي، رغم تغذية وجودهم من الفراغ السياسي داخل السلطة الشرعية، واستغلال فوضى الصراعات الإقليمية.
من هنا، يصبح السؤال الأكثر إلحاحًا ليس عن قدرة الحوثيين على الاستمرار، بل عن قدرة الأطراف المناهضة لهم على تجاوز خلافاتها واتخاذ القرار الحاسم لإنهاء هذه الصفحة السوداء من التاريخ اليمني.
حين تسقط الأنظمة القمعية، فإنها لا تتلاشى فقط نتيجة الهزائم العسكرية، بل لأنها تفقد مبررات وجودها، وتتحول إلى عبءٍ على الواقع السياسي والاجتماعي.
المليشيات الحوثية لم تعد قادرةً على تقديم أي مشروعٍ سياسي قابل للاستمرار، ولم يعد لديها سوى سلاح القمع والترهيب لإطالة أمد سلطتها. لكن هذه الأدوات، مهما كانت وحشيتها، لن تكون كافيةً لحماية نظامٍ يتداعى من الداخل.
الشرعية، التي تمتلك اليوم فرصةً كبيرةً لإنهاء هذا الوضع، تحتاج إلى قرارٍ جريءٍ يضع حدًا لحالة التردد التي تسود دوائرها السياسية.
لا يمكن لأي سلطةٍ أن تحقق أهدافها ما دامت تسير بلا رؤيةٍ واضحة، وما دامت تسمح للفرقة السياسية والدسائس الداخلية بأن تكون عقبةً أمام تنفيذ الاستحقاقات الوطنية.
مأزق الأزمة اليمنية اليوم يتمثل في المراهنة على قوى خارجية تطيح بجماعة الحوثي، لكننا، في الواقع، ومنذ سنوات، نجد أن مراحل التفاوض والضغط الخارجي على هذه الجماعة تتخذ طابع الاستجداء، إذ تُناقَش كل مطالبها، وهو ما يجعلنا محكومين بشروطها، ولا نملك إلا أن نُسلِّم لها بما تطلب أو ترفض، ثم نمضي في الشجب.
من يراهن على انتظار سقوط جماعة الحوثي بأيادٍ خارجية، دون اتخاذ أي خطواتٍ عملية على أرض الميدان، يساهم- بقصدٍ أو بدون قصد- في إطالة معاناة الشعب اليمني، الذي يرزح تحت وطئة الاستبداد الحوثي.
الخلاصة: المشهد اليمني اليوم يقف أمام مفترق طرق؛ إما حسمٌ يُنهي هذه الصفحة السوداء من التاريخ، وإما انتظارٌ غير مُجدٍ لا يزيد الواقع إلا تعقيدًا.
الكرة في ملعب الشرعية، التي تمتلك كل الأوراق اللازمة لإنهاء الكابوس الحوثي، لكنها بحاجةٍ إلى إرادةٍ تتجاوز الحسابات الضيقة لتنتصر للمصلحة الوطنية العليا.
وإذا لم تتحرك الآن، فإنها ستكون مسؤولةً عن إطالة معاناة اليمنيين، وعن ترك هذا الجرح مفتوحًا دون حلولٍ حقيقية.
منور مقبل
كاتب يمني