سورية وحرب النفوذ بين إسرائيل وتركيا
تشن إسرائيل حرباً مفتوحة على سورية، منذ سقوط نظام بشار الأسد في الثامن من ديسمبر/كانون الأول الماضي. تقوم بتدمير القدرات العسكرية السورية، التي ورثها النظام الجديد عن القديم، وهي تشمل الطائرات والزوارق الحربية والمدرعات والمدفعية والصواريخ، وكذلك المرافق كالمطارات العسكرية والأنفاق الخاصة بالصواريخ الاستراتيجية بعيدة المدى، وذلك فيما تصاعد مستوى حرب النفوذ بين إسرائيل وتركيا بالطرق المباشرة وغير المباشرة.
يشار إلى أن القسم الأكبر من السلاح والمعدات التي كانت بحوزة جيش النظام السابق، لم يعد صالحا للاستخدام، لكن البنى التحتية من مطارات عسكرية وأنفاق، ومصانع أسلحة، وموانئ، ومراكز بحوث، لا تزال في حالة جيدة،
وقد كلفت سورية مبالغ مالية طائلة من أجل بنائها وتجهيزها.
كان يصعب على إسرائيل إنجاز هذه المهمة بسهولة من دون توافر عدة معطيات، الأول خرائط تفصيلية عن تمركز الأسلحة والبنى الحاضنة لها، وإحصائيات عن الأعداد والنوعيات،
والثاني معلومات مؤكدة من مصادر استخبارية على الأرض وعن طريق الجو، والثالث عدم وجود مقاومة.
حتى الآن، تقدم اسرائيل أربعة مبررات لهذه الاعتداءات، الأول هو الخلفية الجهادية للفصائل، التي استلمت السلطة في دمشق بعد سقوط النظام السابق،
والتي عززت وضعها في الحكومة، التي تشكلت في نهاية الشهر الماضي، من خلال الاستحواذ على الحقائب السيادية، الدفاع، الخارجية، الداخلية، والعدل، والأمر ذاته بالنسبة لمناصب محافظي المدن.
وتعد إسرائيل هذه الفصائل "إرهابية"، ولا مجال للتفاهم، أو التوصل إلى اتفاقات دائمة معها، وتتصرف على أساس أن الحل الوحيد هو استمرار الحرب عليها، ومنعها من تشكيل تهديد مستقبلي على إسرائيل.
وهذا يعني استخدام الوسائل كافة التي تحول دون بناء جيش سوري جديد يخلف الجيش السابق، الذي تم حله بعد سقوط النظام.
المبرر الثاني، تعبر عنه التصريحات الإسرائيلية الرسمية وغير الرسمية، عن نية توقيع تحالف عسكري بين دمشق وأنقرة. وكان وزير الخارجية الإسرائيلي جدعون ساعر اتهم، أخيراً، أنقرة بالرغبة في إقرار "الحماية التركية" في سورية.
وحسب تصريح الخبيرة في سياسة الشرق الأوسط في جامعة بارإيلان نوا لازمي، لوكالة رويترز أخيراً فإن إسرائيل قلقة بشأن قيام تركيا بتركيب أنظمة روسية مضادة للطائرات، ونشر مسيّرات في قاعدة "تي فور" الجوية.
وقالت: "ستسمح القاعدة لتركيا بإرساء التفوق الجوي في هذه المنطقة، وهو مصدر قلق خطير لإسرائيل، لأنه يقوض حريتها العملياتية في المنطقة".
وحسب المعلومات المتداولة، يتضمن التحالف التركي السوري تنظيم وتدريب الجيش السوري الجديد وتزويده بسلاح تركي حديث، وبناء قواعد عسكرية تركية في مناطق وسط سورية، ومن ذلك بادية تدمر، وإعادة تأهيل المطارات العسكرية الموجودة، ونشر طائرات تركية عسكرية بدون طيار.
ولذلك تركز القصف الإسرائيلي الأخير على مطار "تي فور" في بادية حمص، وعدة مطارات عسكرية في محافظة حماة.
ونشرت صحيفة زمان التركية، الأسبوع الماضي، معلومات تفيد بأن تركيا قامت بتفقد ثلاث قواعد جوية في سورية، على الأقل، قد تتمركز قواتها بها في جزء من اتفاقية الدفاع المشترك المخطط توقيعها، وذلك قبل الغارات الجوية التي شنتها إسرائيل.
وأوضحت، بحسب مسؤول استخباراتي في المنطقة، ومصدرين عسكريين سوريين ومصدر سوري آخر مطلع على الأمر، أن فرقاً عسكرية تركية زارت قاعدة "تي فور" وقاعدة جوية أخرى في محافظة حمص السورية، ومطار حماة خلال الأسابيع الأخيرة.
المبرر الثالث، طموح إسرائيل لتصبح القوة الوحيدة في الشرق الأوسط، التي تتحكم بمصيره، وتفرض عليه الاتفاقات الأمنية والعسكرية والسياسية، التي تناسب مصالحها. وبالنسبة لسورية، فإن فرض اتفاق إذعان، هو أحد الاحتمالات المطروحة، والذي لا يأتي على وضع الجولان السوري المحتل، بل وضعه خارج أي تفاوض.
وتعتبر إسرائيل أن التحولات الجديدة في لبنان وسورية في الأشهر الأخيرة، يعود سببها إلى الحرب التي شنتها ضد "حزب الله" وإيران في لبنان وسورية، ولو لم تدمر قدراتهما العسكرية، لما سقط نظام الأسد، وتم انتخاب رئيس جمهورية، وتعيين رئيس حكومة للبنان.
وبالتالي هي شريكة في هذا الإنجاز سلماً أم حرباً. والمبرر الرابع تحويل سورية إلى دولة فاشلة، وزعزعة استقرارها، وتشجيع إنشاء كيانات انفصالية ، وقد لوحت بهذه الورقة منذ سقوط النظام، من أجل ابتزاز السلطة الجديدة، والحصول على مكاسب عبر تنازلات تشمل الانضمام إلى اتفاقات التطبيع العربي مع إسرائيل، وإقامة علاقات معها.
ترامب وتقسيم سورية
كانت زيارة رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو إلى واشنطن الاثنين الماضي محطة مهمة على مسار التصعيد بين إسرائيل وتركيا. حيث تبين من التصريحات التي صدرت عن الرئيس الأميركي دونالد ترامب أن ما يجري الحديث عنه في وسائل الإعلام حول تقسيم سورية إلى منطقتي نفوذ بين إسرائيل وتركيا، وارد جداً.
ويشي الموقف الأميركي بأن واشنطن تقف في الوسط بين إسرائيل وتركيا وفي وسعها أن تتدخل لتنظيم العلاقة.
ودعا ترامب إسرائيل إلى التصرف بعقلانية لحل أي مشكلة مع تركيا في سورية، وذلك في الوقت الذي لم ينقطع فيه التواصل بين إسرائيل وتركيا بالطرق المباشرة وغير المباشرة.
وتحدثت مصادر متعددة عن أن زيارة وزير الخارجية التركي هاكان فيدان إلى واشنطن قبيل زيارة نتنياهو، كانت بهدف الطلب من الإدارة الأميركية التدخل لنزع فتيل التصعيد العسكري الإسرائيلي ضد سورية.
كما أن تزامن وجود فيدان في باريس مع زيارة نظيره الإسرائيلي جدعون ساعر، في السادس من الشهر الحالي، يرفع أسهم دخول باريس على خط الوساطة بين الطرفين.
عرض وجهتي نظر إسرائيل وتركيا
وتم في هذه اللقاءات عرض وجهتي نظر إسرائيل وتركيا حيال العمليات العسكرية الإسرائيلية ضد سورية. وحسب معلومات إعلامية، فإن فيدان طلب من واشنطن أن تضغط على إسرائيل كي توقف عمليات القصف على سورية، خاصة وأن تركيا ليست في وارد تهديد أمن إسرائيل من سورية،
وكان الرد الإسرائيلي بأن تل أبيب تمتلك الحق في ضرب ما تراه يهدد أمنها في جنوب دمشق على نحو خاص، أو أي منطقة أخرى من سورية.
وفي المحصلة سعى ترامب إلى تبريد الأجواء بين إسرائيل وتركيا قائلاً: نحن قادرون على حل أي مشكلة بين إسرائيل وتركيا بشأن سورية.
لكن صورة الموقف لم تتضح بصورة نهائية، بانتظار ما سوف تتمخض عنه زيارة الرئيس السوري أحمد الشرع لكل من تركيا والإمارات.
إلى ذلك، لا تبدو ذرائع إسرائيل من وراء شن الحرب على الدولة السورية مقنعة، بقدر وضوح الأهداف المرسومة. فالذريعتان الأولى والثانية واهيتان، لأن التهديد الذي تشكله الفصائل افتراضي، في ظل موازين قوى مختلة، ووضع اقتصادي سوري تحت الصفر، في بلد يرزح تحت العقوبات الدولية.
أما الاتفاقات العسكرية مع تركيا، فإن كانت مطروحة من جانب أنقرة، فإنه ليس هناك حماس فعلي لها من قبل السلطات السورية الجديدة، وحتى في حال قيامها، فإن أنقرة ليست في وارد الصدام مع إسرائيل،
ولا يحق لها نقل صواريخ "إس 400" روسية الصنع إلى الأراضي السورية، وذلك أمر منصوص عليه بالاتفاق بين أنقرة وموسكو، التي تحتفظ بعلاقات جيدة مع إسرائيل، وقواعد اشتباك في سورية، لا تزال سارية المفعول، رغم سقوط نظام الأسد.
تدرك تركيا حدود التصعيد مع إسرائيل، سواء على الأراضي السورية، أو خارجها. وهناك انضباط تركي صارم بعدم حصول احتكاك مع تل أبيب، وهذا الأمر واضح منذ بداية الثورة السورية، وانخراط تركيا في مساندة الفصائل العسكرية التي قاتلت نظام الأسد،
والأمر ذاته بالنسبة لإسرائيل، التي لم تتعرض للوجود العسكري التركي على الأراضي السورية.
ما تطمح له تركيا هو الاحتفاظ بعلاقات مع الدولة السورية تحقق عدة أهداف، في تعزيز العلاقات التقليدية، بين دولتين جارتين، تربطهما خصوصيات تاريخية وتعايش سكاني ووجود قرابة ثلاثة ملايين لاجئ سوري بتركيا، وتبادل اقتصادي مهم يعود إلى زمن بعيد.
كما تعمل أنقرة على إنهاء كل أشكال التهديد الحدودي، من خلال مقاتلي حزب العمال الكردستاني، الموجودين في سورية.
ومن هنا ليس هناك تقاطعات مباشرة مع إسرائيل تستدعي الحرب، بل إن كل الفرص قائمة على التفاهم حول قواعد لترسيم حدود النفوذ بينهما، بما في ذلك الأجواء.
لا تبدو السلطة السورية الجديدة في وارد بناء علاقات مع أنقرة تتجاوز الأهداف التركية المعلنة، وهي تدرك أن أي اتفاق عسكري ذي طبيعة استراتيجية مع أنقرة يعرضها لتهديدات إسرائيلية، وعدم رضى أميركي وأوروبي، مما يديم العقوبات الدولية.
ولذلك كانت الزيارة الأولى للشرع إلى السعودية وليس إلى تركيا، وقد قصد من وراء ذلك توجيه رسالة سياسية ترافقت مع تسريبات من دمشق بأن الإدارة الجديدة غير متحمسة لتوقيع اتفاق عسكري لإنشاء قواعد تركية داخل سورية.
وقال مصدر عسكري سوري، إن فيدان ومسؤولين أتراكا آخرين، أبلغوا الشرع في وقت سابق أن أنقرة عدلت بعناية خطواتها نحو اتفاق دفاع مشترك، لتجنب رد فعل من واشنطن،
الأمر الذي ستتضح معالمه خلال الأيام القادمة، وسيكون أبرز مؤشراته توقف عمليات القصف الإسرائيلي لسورية.
بشير البكر
كاتب وشاعر سوري