الشرق الأوسط في مرحلة ما بعد أميركا.. وحرب غزة تكشف حدود قوتها

 تحدثت مجلّة "فورين أفيرز" الأميركية عن علاقة الولايات المتحدة الأميركية بكلّ من "إسرائيل" والسعودية، كونهما الأكثر أهمية لها من الناحية الاستراتيجية في المنطقة، متحدثةً عن تحديدٍ مستقل تقومان به بمنأى عن واشنطن لمصالحهما الخاصة في المنطقة، ليصبح الدور الأميركي في المنطقة مبنياً بحسب تحولات تلك العلاقة، مُشيرةً إلى أنّ المنطقة لا تزال "في مرحلة ما بعد أميركا".

وفيما يلي النص منقولاً إلى العربية بتصرف

 إذا حكمنا، من خلال العلاقات الأميركية القائمة في المنطقة، فضلاً عن ديناميكيات القوة السائدة وأولويات السياسة الأميركية في الأعوام الأخيرة، فإن الشرق الأوسط، الذي سيخرج من أزمة غزة، لن يكون متبايناً كثيراً عن وضعه قبلها.

فعلى الرغم من حدة الأزمة الحالية، فإن القوى الإقليمية تجاهلتها، أو تعاملت معها بحذر، بحيث باتت "إسرائيل" والسعودية - الجهتان الأكثر أهمية من الناحية الاستراتيجية في المنطقة بالنسبة إلى الولايات المتحدة - أقل استجابة للرغبات الأميركية في المنطقة، إذ تَظهران غير مهتمتين بما تريده واشنطن، على الرغم من المشاركة الأميركية المباشرة والمتزايدة. 

ونتيجة لذلك الواقع، فإن السياسة الأميركية بعد الحرب قد لا تتعلق بكيفية عودة الولايات المتحدة إلى الشرق الأوسط، بقدر تعلقها بإدارة المسافة التي تحافظ على أمنها ونفوذها، في آن واحد.

وعلى الرغم من أن انخراط الولايات المتحدة في "أزمة" غزة إلزامي، نتيجة أسباب متعددة، فإن أياً من تلك الأسباب لا ينطوي على مصالح استراتيجية بحتة. فالجذب العاطفي الذي تمارسه "إسرائيل" على الأميركيين، والعلاقة الوثيقة تاريخياً بين "الديمقراطيتين"، يجعلان "دفاعها المشروع" أمراً حتمياً بالنسبة إلى الإدارة الأميركية. ومع ذلك، فإن هذا لا ينسحب على حتمية وجود مصلحة استراتيجية مشتركة في هذه الحرب.

ويرى المسؤولون الأميركيون أن مساعدة الإسرائيليين والفلسطينيين على الوصول إلى تسوية دائمة تمثّل التزاماً تاريخياً، وربما أخلاقياً. وبالقدر نفسه من الأهمية، تشكل الاعتبارات السياسية الداخلية عاملاً أساسياً من عوامل اتخاذ القرار في الولايات المتحدة، وهذا ما تفاقم بسبب الحملة الرئاسية الأميركية، ورفض رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، مناشدات بايدن لممارسة ضبط النفس في غزة.

وهكذا، اضطرت الإدارة الأميركية إلى اتخاذ الموقف السخيف، متمثلاً بنشر البحرية الأميركية لإطعام الفلسطينيين الذين يتعرضون في الوقت نفسه للهجوم بذخائر مصنوعة في الولايات المتحدة. ومع ذلك، فإن القيم الإنسانية الأميركية، إذا كانت تعني أي شيء، فإنها تمنع واشنطن من إدارة ظهرها لعشرات الآلاف من الفلسطينيين، الذين يعانون بشدة، وخصوصاً عندما أصبحت هذه القيم قضية مركزية بالنسبة إلى قاعدة انتخابية ديمقراطية رئيسة. لذا، إن التراجع عن هذه الأزمة بالذات ليس خياراً.

لكن بمجرد انتهاء الحرب، لا ينبغي للولايات المتحدة أن تعود إلى العمل اليومي الشاق المتمثل في إدارة الأزمات في المنطقة؛ فإن قدرة واشنطن على التأثير على الأحداث في المنطقة محدودة للغاية، وتواجه الإدارة تحديات استراتيجية أكبر ليس فقط في منطقة آسيا والمحيط الهادئ ولكن أيضًا في أوروبا.

وهذا لا يعني انسحاباً أميركياً شاملاً من المنطقة أكثر مما كانت عليه الحال قبل ثمانية أعوام، لكنه يعني أن إدارة بايدن يجب أن تخفض أي توقعات بشأن الصفقات الكبرى التي توسطت فيها الولايات المتحدة، والتي يمكن أن تُلزمها بخوض حرب لمصالحها الخاصة، أو تساهم عن غير قصد في سباق تسلح نووي في المنطقة.

ونظراً إلى المنزلقات المتعددة، المترتبة عن تجدد التدخل الأميركي، فإن النتيجة الأكثر قبولاً لأزمة غزة ستكون العودة إلى ما يشبه الوضع الإقليمي، الذي كان قائماً قبل الـ7 من أكتوبر، نتيجة عدة أسباب:

أولاً، لم يتسبب هجوم حماس بهجوم من جانب إيران.

ثانياً، على الرغم من أن "إسرائيل" أضعفت، بصورة واضحة، قدرات حماس العسكرية، فإن المرجح أن تنجو حماس من الحرب، وتستمر في أداء دور سياسي فعال وحاسم في السياق الفلسطيني.

ثالثاً، من غير المرجح أن يتغير الاتجاه العام للسياسات الإسرائيلية كثيراً. وعلى الرغم من أن بيني غانتس يدعو الآن إلى إجراء انتخابات مبكّرة، وقد ينجح في تسخير الغضب الإسرائيلي تجاه نتنياهو من أجل إسقاطه، فمن المحتمل أن يدفع هجوم حماس وتداعياته الناخبين الإسرائيليين إلى اليمين أكثر، ويجعلهم أكثر تشكيكاً في أي عملية سلام.

رابعاً، أصبح فشل "إسرائيل" في معالجة المظالم الفلسطينية بصورة عادلة، وهي القضية التي كانت دائماً عائقاً أمام التطبيع مع السعودية، مشكلة أكثر صعوبة الآن.

في أي حال، لا يزال يبدو أن "إسرائيل" والسعودية عازمتان على السير في طريقهما الخاص. وعلى الرغم من كل الحديث عن تحالف كبير مناهض لإيران، من شأنه أن يغير الشرق الأوسط، فإن أحداث الأشهر القليلة الماضية أكدت استقلالهما عن الولايات المتحدة - أو حتى رفضهما لها -. وتظل الحقيقة أن تصورات التهديد المشترك سوف تدفع إلى التعاون في ظل غياب حيل الصالونات الدبلوماسية.

وفي الوقت عينه، واشنطن غير قادرة على زيادة نفوذها لدى القاهرة من خلال المشاركة العسكرية، وهو الأمر الذي سيُضعِف يد الولايات المتحدة في أماكن أخرى في شمالي أفريقيا، أو في العراق.

وفي العراق وسوريا، فإن الوجود الأميركي صغير الحجم، ويُنظر إليه في واشنطن على أنه غير دائم، ولم يتم توسيعه نتيجة لأزمة غزة. وعلى الرغم من أن الأزمة دفعت الولايات المتحدة إلى زيادة قواتها العسكرية، فإن الجهود الأمريكية سرعان ما تقلصت إلى مواجهة هجمات اليمنيين على السفن التجارية في البحر الأحمر، وتسهيل الإغاثة الإنسانية في غزة.

يبدو أن النظام الإقليمي يعيد ترتيب نفسه بعيداً عن الولايات المتحدة. ولم تكن الإدارة قادرة على منع مقتل أكثر من ثلاثين ألف فلسطيني والدمار المادي في غزة. ولم يستخدم بايدن الأدوات، التي يُفترض أنها متاحة لديه، من أجل إجبار "إسرائيل" على التنحي. إنه مقيَّد، ليس بحبه المتبجح لـ"إسرائيل"، بل بالفجوة الواسعة بين المصالح الأميركية والإسرائيلية في الصراع والتحدي، اللذين تواجههما إدارته، متمثلين بالتعامل مع الانقسام السياسي الحزبي التاريخي الناشئ بشأن العلاقة الأميركية الإسرائيلية في سنة انتخابات حاسمة.

إن هذه الهوّة المتنامية بين تصورات الولايات المتحدة و"إسرائيل" للحرب لا توضح فقط صعوبة تنسيق الإكراه، بل أيضاً نفوذ الولايات المتحدة المتضائل في المنطقة. ولم تتمكن من حل مشاكل المنطقة، الأمر الذي يجعل الاستثمار بكثافة، عبر نتائج مغايرة في المستقبل، أسوأ من المضاربة.

وليس من مصلحة الولايات المتحدة أن تحاول فرض نظام لم تتمكن من فرضه منذ الحرب الباردة، فكل ما تغير مادياً، منذ عام 2016، هو التمدد الاستراتيجي للصين، ودخولها المبدئي للمنطقة. وهذا ليس مبرراً كافياً. كما أنّ هناك عاملاً إضافياً يتمثل بالاستقطاب السياسي داخل الولايات المتحدة نفسها، والذي جعل سياستها الخارجية أقل استقراراً، وأقل اتساقاً، وأقل موثوقية.

ولم يكن أداء الولايات المتحدة الأميركية جيداً في إدارة سياسة خارجية منفتحة في أوقات الخلاف السياسي الداخلي الحاد. فمن الجدير بالذكر أن الجهود، التي بذلتها إدارة جورج دبليو بوش، والتي أثارتها أحداث الحادي عشر من أيلول/سبتمبر، لمكافحة الإرهاب من خلال العدوان الأميركي شبه الإمبراطوري، فقدت، إلى حد كبير، الدعم بسبب التفكك المبكر للشراكة الحزبية المحلية في الولايات المتحدة.

في الوقت الحالي، من الضروري لواشنطن أن تراقب من كثب الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، على نحو يتلاءم مع فرص تعزيز حل الصراع دبلوماسياً. لكن، من غير الحكمة أن تقوم الولايات المتحدة بإرساء رؤيتها للمنطقة في مرحلة ما بعد أزمة غزة على صفقة كبرى غير قابلة للتصديق، وهي غير مجهَّزة لتحقيقها أو المحافظة عليها.

ويُعَدّ التزام الولايات المتحدة أمن "إسرائيل"، بموجب اتفاق متبادل، غير ملزم، أو غير منصوص عليه في أي وثائق تم التصديق عليها. وليس للولايات المتحدة سوى وجود عسكري صغير جداً في "إسرائيل"، وتم رفعه موقتاً بسبب الأزمة. وسيكون من الخطأ أن تقوم الإدارة بإدخال قوات لغزة كجزء من ترتيبات حفظ السلام أو فرض السلام، كما تخطط الوكالات الأميركية، ولو من دون وجود عنصر عسكري أميركي.

من الطبيعي أن تعارض السعودية عرض القوة الإيرانية، لكنها مهتمة أيضاً باحتوائه سلمياً، بحيث قامت بتطبيع العلاقات الدبلوماسية، وانخرطت في محادثات مع إيران، وطرحت حزمة استثمارية كبيرة كحافز على مزيد من التعاون. وهذه الدوافع لدى الرياض تنبع من المصلحة السعودية الذاتية، وليس من الضغوط الأميركية.

بالإضافة إلى ما تعكسه الأزمة الحالية من انهيار إقليمي خطير، فإنها تكشف أيضاً، بصورة صارخة، حدود القوة الأميركية في المنطقة، وتلقي الضوء على المخاطر التي يفرضها الوجود الأميركي الضخم والدائم.

إن تحييد القوة والنفوذ الأميركيين جانباً لن يخلق أي فراغ في السلطة، فالدول الكبرى في المنطقة بدأت تتوصل إلى كيفية إدارة مشاكلها بنفسها، ولو على نحو يتسم بالبطء وعدم الاحتمال.

إنه نظام التنظيم الذاتي. وفي ضوء ذلك، قد تكون واشنطن أكثر قدرة على حماية مصالحها في الشرق الأوسط... عن بُعد.