اليمن... حين يُستبدل المجد بالجهل، وتُختطف الأوطان بالخرافة
أكتبُ لكم هذا المقال، وكلي وجعٌ يلامس شغاف القلب. وجعٌ على وطنٍ كان مجداً، فصار اليومَ جرحاً غائراً لا يندمل. وطنٌ لطالما حمل التاريخَ على أكتافه، وعلّم البشريةَ كيف يولد النور من رحم الظلام، وكيف تُبنى الحضارات من الصخر.
هذا الوجع ليس مجرد شعور عابر، بل هو مرثية لحضارةٍ عريقة تُحتضر أمام أعيننا، وخيبة أملٍ في قدرة الإنسان على أن يصون إرثه من براثن الجهل والخرافة.
أكتبُ هذا، لا لأُعيد سرد مأساة يعرفها الجميع، بل لأتأمل معكم كيف يمكن للمجد أن يتبدل بلمح البصر، وكيف يمكن أن تُختطف الأوطان وتُقاد إلى هاوية النسيان.
في خاصرة الجزيرة العربية، حيث سالت أولى الأحلام في جداول التاريخ، تقف اليمن اليوم كأنها تُراجع سيرتها أمام مرآة العالم المشروخة.
وطنٌ لم يُخلق لينزوي في الظلال، ولا ليُستباح بهذا القدر من التواطؤ والخذلان، بل ليكون أقدم الحكايات وأجملها، بلدٌ علم العالم كيف تُشق الجبال، وتُروى الأرض، وتُكتب الحروف على ألواح الطين، لكنه اليوم غدا مجرد اسمٍ على جدار النسيان،
يُنادى في نشرات الأخبار لا لبطولاته، بل لمآسيه، لا لعظمته، بل لانكساراته.
ما الذي جعل اليمن، وهي أول من لبس التاج، وآخر من ودّع الحضارة، تصبح ساحةً للأفكار المستوردة، والأيديولوجيات المتصارعة، والعصبيات العمياء؟
كيف انتقلنا من مملكة سبأ التي أدهشت العالم بسدّها، إلى جماعة لا تفهم من العالم شيئًا سوى الموت، وتُشهر الجهل سيفًا في وجه كل عقل؟
ما الذي جعل أبناء مأرب الذين شيّدوا أعظم حضارة يمنية، يرضخون اليوم لصوت الرصاص، ويخرسون أمام خرافة السلالة؟
كيف سمحنا لزمرة من شذاذ الآفاق أن يعتلوا صهوة اليمن، ويُعيدوا إنتاج الكهنوت من جديد، لكن هذه المرة بمكبرات صوت وشعارات العصر؟
إنها الأيديولوجيا حين تُصبح دينًا زائفًا، وتتحول من فكرة إلى أداة قمع، تُفرّغ الإنسان من عقله، وتملؤه بالخوف والطاعة العمياء.
إنها الأيديولوجيا حين تستبدل التفكير بالانتماء، وحين تُقدّم الولاء على الكفاءة، والدم على الفكرة، والحسب على الإنسان.
ولأن اليمن بلدٌ تتقاطع عنده أطماع الجغرافيا مع هشاشة الداخل، فقد كان فريسةً مثالية لكل فكرة تتغذى على التمزق، ولكل جماعة تقتات على الجهل.
فتعددت الولاءات، وتكاثرت الرايات، وسقطت الدولة من أعين الناس، قبل أن تسقط من يدها.
ما من فكرة قاتلة مرت على هذه الأرض إلا ووجدت في الجهل حليفها الأول، وفي المناطقية محراثها، وفي الغفلة بوابتها الكبرى. ولأن الجهل في اليمن لم يكن مجرّد نقصٍ في المعلومة، بل تغييبٌ متعمّد للوعي،
فقد كان سهلاً أن يتحول الإنسان اليمني من مالكٍ لأرضه إلى عبدٍ لِوَهْم السيادة، من صاحب عقل إلى تابعٍ لِقَول الإمام.
فلم يعد يسأل، ولا يُشكك، ولا يبحث، بل يكتفي أن يُردّد ما يُلقّن، ويهتف لما لا يفهم، ويقاتل من لا يعرف لماذا يقاتله.
وما زاد الطين بلة أن الوطن نفسه تفتّت إلى هويات مصغّرة، كل منطقة ترفع رايتها، وكل قبيلة تُبايع شيخها، وكل جماعة تظن أنها اليمن، وما عداها خيانة.
فذابت الهوية الوطنية في مستنقع العصبيات، وتحوّل الانتماء من فكرة جامعة إلى سيفٍ يُجزّئ الجغرافيا ويشوّه التاريخ.
حتى أصبحنا نُعرّف أنفسنا لا كيمنيين، بل كأبناء هذه القبيلة أو تلك، كموالين لهذا الزعيم أو ذاك، كأننا لم نكن شعبًا واحدًا، يجمعه تاريخ ومصير، بل جماعاتٍ متناثرة تتقاطع مصالحها وتتنازع على الخراب ذاته.
وحين تسود الجهالة، يصبح الشعب قطيعًا، والراعي سيدًا، والمذبح قدرًا. هكذا تمكنت فئة ضالة من تدجين أمةٍ بأكملها، باسم الله تارة، وباسم الحق التاريخي تارة أخرى، وباسم المقاومة المزيفة دائمًا.
وكلما رفع الناس رؤوسهم، جاءهم سوط التخوين من كل جانب، وكلما حاولوا الخروج من الظلام، خرجت لهم فتاوى الطاعة العمياء، لتغلق أبواب الشمس وتتركهم عراةً في العتمة.
ولم يكن الخارج أقل إثمًا من الداخل. فلطالما حسدت بعض الدول اليمن على ماضيها، وخافت من مستقبلها، فعملت على تحطيمها بصمت، دعمت الجماعات، وباركت الانقسامات، وصمتت عن كل الجرائم.
ولم تكن المشكلة في التآمر وحده، بل في أن الداخل كان هشًا بما يكفي ليتلقى الطعنات دون أن يصدر أنينًا، يئن فقط حين يُطلب منه أن ينهض.
اليمن لا يحتاج إلى بيانٍ جديد، ولا إلى شعار مكرر، ولا إلى قوى خارجية تُنقذه ثم تُقسمه.
اليمن يحتاج إلى يقظة داخلية تُعيد للإنسان وعيه أولاً، تُعيد إليه شجاعته على التفكير، وجرأته على الرفض، وقدرته على أن يقول "لا" في وجه من قالوا إنهم ظلّ الله في الأرض.
اليمن لا تُحرره البنادق ما لم تُحرر العقول أولًا، ولا تستعيد مجده الشعارات ما لم تُسترد كرامة الإنسان فيه، ويُعاد تعريف المواطنة فيه من جديد، لا كنعرة، بل كمسؤولية.
فلا خلاص لهذا البلد إلا حين يُدرك أبناؤه أنهم ليسوا توابع لماضٍ سقيم، ولا أدوات لمشاريع خارجيّة، بل ورثة حضارة، وسادة أرض، وشعب لا يليق به إلا أن يكون حرًّا، عزيزًا، لا يركع إلا لله، ولا يُباع على أرصفة الطوائف والجهل والخرافة.